كوابيس مسخ المدينة - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 4 أكتوبر 2025 11:08 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

كوابيس مسخ المدينة

نشر فى : السبت 4 أكتوبر 2025 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 4 أكتوبر 2025 - 7:35 م

 

ذكّرتنى هذه الرواية الكابوسية باللوحات الوحشية والمرعبة للفنان الهولندى هيرونيموس بوش، إذ نجد أنفسنا خلال أسبوع واحد يستلهم أسبوع الآلام، وقد عاد الموتى ليسيروا فى طرقات المدينة بأكفان متربة، بينما تساقطت أصابع وأعضاء سكان المدينة الأحياء، فصاروا مسوخًا هائمين من دون مشاعر أو أحاسيس.

الرواية الصادرة عن (منشورات حياة) لمؤلفها أحمد عبد اللطيف عنوانها «أصل الأنواع»، والعنوان يذكرنا أولًا بنظرية داروين الشهيرة، والتى تُعرف أيضًا بنظرية «التطور». فى النص فعلًا ما يستلهم هذه النظرية، ولكن بعد أخذها إلى مسارات أخرى، وبمزيج أكثر تعقيدًا وطموحًا مما توهمنا به الحكاية الطريفة وبذورها المصرية الواقعية، إذ يستلهم الكاتب أيضًا القصص الدينى المسيحى، وبالتحديد رحلة الألم والصلب والقيامة، مثلما يستفيد من تقنية الغرابة والمسوخ، والأجواء السيريالية، وحس السخرية، ويستخدم أيضًا تقنيات دراما العبث، ثم يحيط كل ذلك بمعالجة تتأرجح بين الملهاة والمأساة.

وإذا كانت نظرية داروين تعتمد على «الانتقاء الطبيعى» و«البقاء للأقوى والأصلح والأكثر تكيفًا مع البيئة»، فإن حكايتنا تمتلك خصوصيتها، وكأنها «نظرية محلية» للتطور تنتج الفوضى؛ فمن ينتقى ويختار يمثّلون السلطة، ومن يحدد مفهوم التطوير هم أيضًا أهل هذه السلطة، وقرار تطوير المدينة يرتبط بهدم وإزالة مقابر «مدينة الموتى». ويؤدى هذا التطوير القسرى ليس فقط إلى طرد الموتى من مقابرهم، ولكن أيضًا إلى تساقط أصابع الرجال وشعورهم، وتساقط صدور النساء، ثم تفكك اللغة، وضياع العواطف، وموت الأسماك، وتجوال الموتى بأكفانهم، وتحول أهل المدينة إلى بشر يشبهون الروبوت.

إننا إذن أمام «تطور عكسى»، و«انتقاء فوقى»، ومسخ افتراضى للمدينة يؤدى إلى مسخ خيالى للبشر. أما نتيجة نظرية أصل الأنواع هنا فهى بقاء وحضور المسوخ والأشباح، وقيامة للموتى، وكأننا أمام إعادة صياغة سيريالية لنظرية علمية معروفة، وبما يطرح أسئلة عن ماهية وهدف التطور، وعلاقة وتأثير قرارات السلطة على البشر، وبما يعيد تأمل ما يمكن أن يراه البعض من البديهيات.

لدينا فقط أيام معدودات من شهر إبريل فى مدينة نعرف أنها القاهرة، بل إن مكان الشخصيات هو حى المنيل، حيث الماضى القديم، والنيل الذى سيتحول إلى اللون الرمادى، وحيث يمكن رؤية مدينة الموتى من الشرفة.

الشخصيات التى ستؤثر فيها نظريتنا المحلية فى أصل الأنواع ثلاث فقط؛ هم: رام، مهندس المحافظة المكلّف بتنفيذ خطة التطوير عبر الهدم، وسيد باتشان، اللص الذى أصبح بائعًا للفاكهة حتى يقوم بمهمته الجديدة كمخبر سرى، ويحيى الحافى، لاعب الكرة المعروف ونجم المنتخب القومى لكرة القدم.

اختيار الثلاثة تحديدًا مرتبط بمستويات اجتماعية واقتصادية متفاوتة، واختيار اختفاء الأصابع بالذات مرتبط باكتشاف أهميتها التى لا نحس بها إلا عندما نفقدها. الأصابع البشرية المتفاوتة عند داروين من أدلة التطور، ولكن أصابع القدمين عند يحيى الحافى هى رأسماله كله، وعنوان مهارته وموهبته. والشخصيات الثلاث أيضًا أسرى تنويعات سلطوية تحاصرهم: مهندس ينفذ التعليمات، ولص معتزل صار مخبرًا يقدم تقارير للأجهزة الأمنية، ولاعب فقير الأصل صار أسير الفريق والملعب والشهرة والأموال، ولا قيمة له خارج هذا الإطار.

وكما تتكرر فكرة أن الوجود هو القوالب، وحياتنا مثل السوائل التى توضع فيها، فإن هذه الرحلة فى جوهرها محاولة انتقال من أسر القالب إلى بعض التحرر. فرغم سقوط الأصابع والشعور، يستقيل رام رافضًا هدم المقابر بعد أن كان موافقًا على ذلك، ويستقيل باتشان من عمله كمخبر لظروف صحية، ويترك يحيى الكرة عائدًا إلى مهنة والده فى بيع الأحذية.

من ناحية أخرى، تلعب علاقات الحب دورًا مهمًا فى مواجهة تساقط أعضاء البشر، وتساقط أعضاء المدينة، إذ يضربها أيضًا قانون «أصل الأنواع». وتتلون هذه العلاقات وتتغير وتخضع للاختبار، ونموذجها الأهم علاقة رام بكل من نيفين ومريم وفاتن.

استخدام اسم «رام» واسم «مريم» يسهل أخذهما من واقع المدينة المحدود إلى براح التضحية والنهاية الأسطورية. وبينما يدفع رام الثمن بعد أن حسم ازدواجيته، فإن الموت ينتهى إلى قيامة، ولكننا نشك تمامًا فى عودة المدينة القديمة، إذ لم تبق منها سوى حكايتها المكتوبة.

تم تصميم البناء كله وفق هذا المزيج الذى يبدأ واقعيًا إلى حد ما، وينتهى عبثيًا سيرياليًا، ووفق هذه العلاقة الوثيقة بين جسد المدينة وجسد أهلها، إذ يؤدى بتر جسد المدينة إلى بتر أعضاء أهلها. ورغم أن المأساة تطال أيضًا ضمور الأعضاء الذكورية، واختفاء صدور النساء، وسقوط الشعور، فإن مجاز الأصابع كان هو الأقوى والأوضح؛ فالأصابع لغة كاملة موازية يمكن التفاهم بها عند فاقدى الكلام، ولمسة الإصبع هى بداية الخلق فى لوحة مايكل أنجلو. واللغة المنطوقة ذاتها ستتعثر بالتدريج مع اختفاء وضمور الأعضاء، ولن يتمتع بالأصابع والأجساد العملاقة سوى من هم فى مواقع السلطة.

أقول إنها رؤية كابوسية سيريالية؛ لأنها تنتهى إلى تطورٍ فوضوى بالكامل، ورغم استخدام أعضاء صناعية، وباروكات للشعر، وقفازات تخفى الأيدى عديمة الأصابع، وصنادل عجيبة تخفى ما حدث للأقدام، فإن جسد المدينة، أحياءً وأمواتًا وأبنيةً، ينتقل نهائيًا إلى عالم ممسوخ.

هى أيضًا مرثية وداع لمدينة قديمة ترحل، ولحياة قديمة غاربة، بل وتأتى إشارات واضحة بأن تساقط أعضاء المدينة قديم ويعود إلى الستينيات والخمسينيات؛ فقد كان والد يحيى أبتر، فكأنها كوابيس متجددة، وكأن الأحفاد أشباح يرثون أشباحًا، فلا تعرف أيهم يسكن المقابر؟ ولا تعرف أيهم يسكن المدينة؟

ربما كانت الرواية فى حاجة إلى بعض التكثيف والاختزال منعًا للتكرار والاسترسال، ولكنها امتلكت فى النهاية تأثيرها القوى، ومعادلها الفنى الطموح، واستلهاماتها الحرة والمتداخلة. وإذ نلهث وراء كلمات لا تفصلها علامات ترقيم، فإن ذلك يشبه سيلًا ينحدر بلا توقف، ليغرق المدينة وأهلها، ويزيل مدينة قديمة، دون أن نرى فى الرواية بقاءً للأصلح، ودون أن نعرف فاصلًا بين الموتى والأحياء، أو بين سكان المقابر وسكان المدينة.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات