الإعلام الذكائى - صحافة عربية - بوابة الشروق
السبت 4 أكتوبر 2025 11:10 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

الإعلام الذكائى

نشر فى : السبت 4 أكتوبر 2025 - 7:40 م | آخر تحديث : السبت 4 أكتوبر 2025 - 7:40 م

قد يتبدّل وجه المهنة أمام أعيننا، لا لأننا نضيف جهازًا ساحرًا إلى الطاولة؛ بل لأننا نعيد تعريف ما تعنيه الكلمة حين تغادر فم الصحفى وتصل إلى شاشة القارئ، فالمحرر ومدير التحرير (الذكاء الاصطناعى) لم يعد عابر سبيل فى قاعة الأخبار، بل كأنه صار موظفًا جديدًا يطلب بطاقة عمل ومكانًا فى الاجتماع الصباحى؛ فهو «الديسك»، والتحرير، وحارس البوابة، والخبر العاجل؛ معه تسارع المراحل، واختصار المسافات، وجمعٌ عاجل للمواد الخام، وتلخيصٌ للنصوص المترامية، وتوليدٌ لمقترحات وصور وخيارات سردية، وتوزيعٌ يفهم إيقاع المنصات، ويخاطب مزاج الجمهور فى لحظته؛ لكنه فى الوقت نفسه يضعنا أمام مرآةٍ من أسئلة محرجة: من يكتب حقًا؟ من يحدد ويفكر؟ ومن يختار زاوية النظر؟ ومن يحرس المعنى؟ ومن يرتب المحتوى حين تغريه السرعة وتستعجله انسيابية الخوارزميات؟

إن فتنة الأدوات لا تُخفى ما يرافقها من عِلل؛ فقد نجد مضامين ملوثة، وأخبارا مضللة، ومعلومات متسممة تتقن التنكر فى هيئة الحق، وطرائق جذب قد تكرر ما نحب حتى ننسى ما نحتاج، وانزلاق بطىء نحو ذوبان المهنية حين يتحوّل الصحفى من صانع معنى إلى مدير مجموعة من الأدوات.. يضغط الأزرار ويثق بالنتائج أكثر مما يثق ببوصلة المهنة فى هذا الزمن ينهض سؤال الأساس المعرفى: هل ننشر لأن الأداة الذكائية تعدتنا بالانتشار، أم لأن القصة تستحق أن تُروى؟ وهل يصبح القارئ شريكًا فى الفحص أم مستهلكًا مطيعًا لما يُعرض عليه؟

إن العلاقة بين الذكاء الاصطناعى والعمل الإعلامى ليست خصومة ولا ترابطًا كاملًا، هى هدنةٌ مشروطة، تمنحنا آفاقًا جديدة حين نستخدمها بحذر، وتحوّلنا إلى صدى باهت إن سلّمنا لها زمام القرار، فالفرصة هنا أن نستعيد وقتًا ضائعًا فى أعمالٍ رتيبة ونستثمره فيما لا تجيده الآلات بطرح الأسئلة التى لا تُقاس، وملامسة تفاصيل البشر، وترتيب الحجة بما يراعى تعقيد الواقع، والتقاط تلك النبرة العقلية التى توازن بين الرصانة والوضوح.

هناك توجس وخطر يكمن فى تواكلنا على التوليد واستبدال التحقق بلمعان الشكل، ونرضى ببداهةٍ مسطّحة تُصالح المتلقى على ما يريد لا على ما يحتاجه، أو ما نريد قوله، والأسوأ أن تتراكم انحيازاتٌ صامتة فى توصيات وتوجيهات المنصات، فتُقصى أصواتًا وتضخم أخرى، وتحوّل الحقائق فسيفساء مموهة بالإبهار تسرق الإعجاب السريع والتمرّر الفورى، ثم تأتى المهارات لتقف فى مفترق الطرق: هل سيكفى الصحفى معرفة «كيف» يطلب من الأداة؟ أم يلزمه أن يعرف «لماذا» يطلب وما الثمن إن لبّت الأداة الطلب على نحوٍ خادع؟

إن مهارات الغد ليست مجرد براعةٍ فى إدارة الموجّهات، بل مزيجٌ من حسٍّ أخلاقى يقظ، وقدرةٍ على التحقق الدقيق، وذائقةٍ لغوية تحمى المعنى من الاستسهال، ومعرفةٍ بصناعة القرار التحريرى حين تتعارض الشعبية مع الصدق، وعلى الضفة الأخرى يقف المستخدم، تُطارده إشعاراتٌ لامعة وتنبيهاتٌ ذكية، وتخصيصٌ يكاد يعرفه أكثر مما يعرف نفسه، فهل نكتفى بإرضائه بما يشتهي، أم نعرّف دور الإعلام أنه توسيعٌ لأفقه، وإخراجٌ له من غرفة الصدى إلى ساحة الأسئلة الواسعة؟ وما مصير الفكر الإعلامى إن صار يلهث خلف لحظة التفاعل أكثر مما يحرص على عمق الفهم؟ على المؤسسات أن تعلن قواعد لعبةٍ واضحة، وإفصاحا صريحا عمّا استُخدمت فيه الأدوات، مراجعة بشرية لا تُساوم على الدليل، معايير اختيار تُقدّم المصلحة العامة على فورة الخوارزميات، وسياسة صور ونصوص توليدية تُفرق بين التوضيح والإثبات عندها فقط يمكن أن نسأل بثقة: هل سيكون ما ننتجه مهنيًا حقًا؟ الجواب ليس وعدًا شاعريًا ولا نفورًا متشددًا، بل عملٌ يومى يربط كل قصة بأدلتها وحدود معرفتها، ويُبقى القرار الأخير إنسانيًا لأنه وحده يتحمل المسئولية أمام الناس والتاريخ.

ويبقى القول: الإعلام الذكائى وإن تذاكى عمليًا وانبهرنا بأدواته فهو فى حقيقته العميقة مملوء بالهفوات القاتلة، والغباء المتراكم ويجب ألا يكون استبدالًا لعقل الصحفى؛ بل يفترض أن يصبح امتحانًا لقدرته على جعل الأدوات خادمةً لمهنيته، ومجسدة للحقيقة لا متسيدة عليها، فإن نجحنا صنعنا محتوى يولد سريعًا لكنه ناضج، يفهمه المتلقى ويثق به ويعود إليه، وإن أخفقنا فسنبنى ستارا من اللمعان يعجز عن صد أول عصف من الأسئلة بين اختيارين (مهنى وأخلاقى) لنحدد بعدها إن كنا سنستقبل عصرًا يوسّع حرية الفهم، أو يضيّقها باسم الراحة الذكية، واللين الرقمى.

عبدالعزيز اليوسف

جريدة الرياض السعودية

 

التعليقات