(1)
لعل من أهم ما تثيره أى مناسبة تاريخية أو وطنية فى نفوس المحتفين بها والمهتمين بشأنها، أنها تحرك دوائر متصلة ومتداخلة من الأسئلة، والتطلع إلى مزيدٍ من المعرفة بها، ومزيد من المعلومات حول الحدث المقصود. كما أنها تفتح الباب واسعًا لمراجعة ما تم تداوله من روايات ومرويات غير موثقة، ولا علمية، ولا سليمة، فى الوقت الذى تتأجج فيه الرغبة فى القيام بمراجعات نقدية للمواد التى تراكمت حول الحدث أو عنه.
52 سنة مرت على حرب أكتوبر العظيمة؛ الحرب التى اندلعت فى الساعة الثانية وخمس دقائق من ظهر يوم السادس من أكتوبر 1973، وكان لنا فيها - ولأول مرة - زمام مباغتة العدو والهجوم المباشر؛ 220 طائرة عبرت قناة السويس وضربت أهدافها المحددة فى عمق سيناء، ودمرت مراكز القيادة الإسرائيلية، وقطعت خطوط الاتصالات الرئيسية بين قواتها الميدانية على الأرض ومركز قياداتها فى تل أبيب.
بعدها، وبتناغم غير مسبوق، وتخطيط محكم شهد له الجميع، ومستوى من الأداء قدّمه أبطال القوات المسلحة عبر مختلف قطاعاتها وأسلحتها وتقسيماتها: المدفعية، والقوات البحرية، والدفاع الجوى، والمشاة، والمهندسون العسكريون، والقوات الخاصة، ووحدات الصاعقة؛ كلٌّ فى مكانه وموقعه.. أقول قدّم كل هؤلاء «ملحمة» بكل ما تعنيه الكلمة.
أجمعت كل الخبرات والقيادات العسكرية فى العالم (وشهاداتها مثبتة ومحفوظة بلغاتها الأصلية أو فيما تُرجم منها إلى اللغة العربية) أنها «ملحمة» حقيقية، وعملية سيتوقف أمامها التاريخ العسكرى بالدرس والتحليل، وهو ما كان فعلًا.
ولا شك عندى فى أن حرب السادس من أكتوبر 1973 من أجَلِّ وأعظم الحروب التى خاضها شعبنا وقواتنا المسلحة فى التاريخ الحديث، كما أنها- مهما قيل أو سيقال عن نتائجها وانعكاساتها على المسارين السياسى والاقتصادى خلال العقود التالية لها- واحدة من الأحداث التاريخية الجليلة التى توافر لها من البذل والجهد والعرق والتخطيط ما يستحق أن نفخر به، ولا ننكفئ على وجوهنا ونندب حظوظنا كما يحلو لفريق موتور يناوشنا ويضايقنا طيلة الوقت، لا يرى فى أى شىء - مهما كان - جانبًا إيجابيًا أو وجهًا مشرقًا. لكن الحقائق لا تغيب ولا تُزيف مهما كانت المؤامرات والتحديات!
(2)
ولم يكن الجغرافى الفذ والمفكر الاستراتيجى الراحل جمال حمدان ليغفل عن تناول هذه الحرب وأبعادها الاستراتيجية فى دراسة تكاد تكون الأهم على مستوى التحليل العلمى، والرؤية المستقبلية، والتناول النوعي؛ أقصد كتابه «6 أكتوبر فى الاستراتيجية العالمية» الذى أتصور أنه لم ينل بعد كل ما يستحق من قراءة وتحليل واهتمام.
فى مقدمة كتابه المهم «استراتيجية الاستعمار والتحرير» أكد حمدان أهمية البعد التاريخى كمدخل لأى دراسة علمية جادة وعميقة للواقع السياسى والاستراتيجى المعاصر، واعتبر أن التاريخ هو «معمل الجغرافى ومخزن الاستراتيجى، فالتاريخ إذا كرر نفسه فإن هذا التكرار هو الجغرافيا».
وهذا بالضبط ما طبّقه - رحمه الله - فى تناوله لحدث كبير وضخم مثل حرب أكتوبر 1973. لم يسلك حمدان الطريق السهل؛ وهو الكتابة الدعائية الإنشائية التى لا تُسمن ولا تُغنى من جوع؛ العلم والمعرفة هما سلاح الشعوب الراغبة فى تخطى العقبات ومواجهة التحديات للوصول إلى ضفاف المستقبل بأمان وطمأنينة.
وهذا ما فعله حمدان حين قدّم للمكتبة العربية واحدًا من أفضل وأعمق الكتب التى تناولت "حرب أكتوبر" علميًا ومعرفيًا وثقافيًا. تقرأ الكتاب بوعى فتعرف كيف تم هذا الإنجاز المصرى والعربى الخالد، وتقرأ الكتاب فتتعرف على ما يملؤك ثقة ويقينًا فى أبناء وخبرات هذا البلد، شريطة أن نأخذ بأسباب النجاح والتفوق.
احتوى الكتاب على المعلومات، وإن لم تكن هى الهدف فى ذاتها، وتفجرت فيه المشاعر الوطنية لكنها لم تطغَ أبدًا على صوت العقل والضمير والتحليل الدقيق. عرض للمعجزة وبيّن أنها لم تكن خوارق ولا معجزات بالمعنى الغيبى؛ إنها نتاج عمل ودأب وتخطيط وتنظيم وأخذ بأسباب النجاح! وكان كل هذا نتاجًا مصريًا خالصًا لا تشوبه شائبة!
(3)
ويقدّم الكتاب، الذى صدر بعد الحدث الكبير بعام أو عامين، الكثيرَ من التفاصيل والتحليلات المعمقة عن حرب أكتوبر؛ لا على الجبهة المصرية فقط، بل على الجبهة السورية أيضًا التى ينسى البعض أنها كانت تحارب جنبًا إلى جنب مع الجبهة المصرية. كما يقدم ويستعرض الكثير من الآراء ووجهات النظر والتحليلات المصرية والعالمية والإسرائيلية لكيفية حدوث ما حدث. الكتاب غنى تمامًا بالمعلومات الموثقة والحقيقية عن حرب أكتوبر المجيدة.
ولأن جمال حمدان المفكر الاستراتيجى الفذ يعتمد منهج «التحليل» والتفكيك للظواهر التى يعالجها من منظور أكاديمى صارم، فلم يقم فقط بمعالجة الحدث الأهم والمباشر موضوع الكتاب؛ وهو نصر أكتوبر العظيم، بل قام أيضًا بمراجعة رائعة ودقيقة لما قبل أكتوبر، وقدّم تحليلًا بديعًا لنكسة يونيو 67، وما جرى من صمود الاستنزاف (1968-1969) لنعرف ونتأكد أن «نصر أكتوبر لم يكن وليد لحظة عابرة، وأن النصر لم يأتِ متأخرًا، بل جاء فى موعده المناسب تمامًا».