أمريكا وايران صنعتا تنظيم «داعش»، لكن ليس بالطريقة التى تتهمان بعضهما البعض بها.
وزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون لم تقل إن حكومة الرئيس باراك أوباما خلقت التنظيم الإرهابى، على عكس ما يروج مؤيدو إيران، ولم تقدم طهران المأوى لزعماء «تنظيم القاعدة» بالصورة التى يرسمها أصدقاء الولايات المتحدة.
«داعش» هو نتيجة ما كانت تعتقده واشنطن حذاقة فى دبلوماسيتها الدولية فى إقامة «التوازن الاقليمى» بين السنة والشيعة، ثم محاولتها نشر الديمقراطية، ثم عودتها إلى التوازن، ثم تخليها عن المنطقة برمتها.
«داعش» هو أيضا نتيجة العداء القديم بين «عراق عجم» الشيعى، على ضفاف دجلة، و«عراق عرب» السنى، على ضفاف الفرات. بعد نهاية الحرب العراقية ــ الإيرانية فى العام ١٩٨٨، تحول الصراع العربى ــ العجمى صراعا باردا، إلى أن اجتاحت أمريكا العراق، وأعادت هذا الصراع إلى ذروته.
مع الشاه رضا بهلوى، دعمت أمريكا إيران لتنتزع شط العرب من العراقيين، ثم مع نظام الملالى، ساندت أمريكا العراقيين فى حربهم ضد الإيرانيين، لكن من دون أن تتخلى عن علاقاتها السرية مع إيران، كما اتضح لاحقا فى زيارة مستشار رونالد ريغان للأمن القومى ماكفرلين طهران ولقائه القيادى الثورى الشاب يومها حسن روحانى. بعد ذلك، كانت فضيحة «إيران كونترا جايت»، والإفراج عن الرهائن الغربيين فى بيروت، وهو ما كشف عن علاقات أمريكية ــ إيرانية سرية أظهرت أن أمريكا لم تكن يوما بعيدة عن إيران ذلك البعد الذى دأب الطرفان على تصويره.
بعد هجمات ١١ سبتمبر، انقلبت المفاهيم الأمريكية، وأعتقد طاقم المحافظين الجدد، الذى سيطر على إدارة جورج بوش الاولى وانحسر فى الثانية، إن سياسة «التوازن الإقليمى» حافظت على ديكتاتوريات أنتجت بدورها شبابا محبطين صبوا غضبهم على أمريكا، كسر المحافظون الجدد «التوازن الإقليمى»، وحاولوا استبداله بديمقراطية فى العراق اعتقدوا أنها ستنتشر فى عموم المنطقة. ولم تفطن إدارة بوش إلى أن المنطقة الممتدة من حدود الهند إلى الأطلسى تفتقر أدنى مقومات الديمقراطية.
والتعاون الأمريكى ــ الإيرانى فى العراق بدأ منذ اليوم الأول للاجتياح الأمريكى، فواشنطن اعتقدت أنه يمكن لتعاونها مع إيران الشيعية ضد الإرهاب السنى فى أفغانستان والعراق أن يصيب عصفورين بحجر: القضاء على الإرهاب وإعادة وصل ما انقطع مع طهران منذ عام ١٩٧٩. هكذا، طار السفير ريان كروكر سرا إلى جنيف للقاء الإيرانيين، وبدأ التنسيق حول البلدين. واستمرت إيران فى رسم سياسة الاحتلال الأمريكى فى العراق، التى تصدرها قانون «اجتثاث البعث»، الذى أجج بدوره الشعور السنى بأن الحرية الأمريكية فى بلادهم هى فى الواقع انتقام إيران الشيعية منهم، وهو ما بدا جليا فى محاصرة دبابات رئيس الحكومة الشيعى السابق نورى المالكى منزل نائب الرئيس السنى السابق طارق الهاشمى صبيحة اليوم، الذى تلى الانسحاب الأمريكى نهاية العام 2011.
ولننظر إلى الأمور من وجهة نظر زعيم «داعش» إبرهيم السامرائى، الذى يكنى نفسه بأبوبكر البغدادى، ومن وجهة نظر كبار قياديى التنظيم، ومعظمهم ضباط بعثيون سابقون من جيل البغدادى، ما يعنى أن غالبيتهم مواليد النصف الثانى من الستينات والنصف الأول من السبعينيات. وعى هؤلاء الشباب بدأ يتشكل مع بداية حرب بلادهم الطاحنة ضد إيران، تلتها حرب الكويت وحصار اقتصادى خانق دام 12 عاما، ثم الاجتياح الأمريكى واجتثاث السنة، حتى من انخرط منهم بالعملية السياسية أو قاتل لطرد «القاعدة فى العراق».
لقد ساهمت السياسات الأمريكية تجاه العراق، منذ منتصف السبعينيات، فى صناعة جيل يألف القوة كلغة وحيدة للحوار، أجبره الحصار على إقامة شبكات مالية خارج النظام الاقتصادى العالمى، وهى الشبكات نفسها التى يستخدمها «داعش» اليوم لتمويل نفسه. كما يلجأ التنظيم لاساليب قمعية هى أساليب نظام صدام نفسها، ما دفع شيعة العراق إلى إطلاق تسمية «البعثيين الدواعش» على أفراد التنظيم، وهى تسمية صحيحة.
أما إسلامية «داعش» فهى اكتمال لعملية الأسلمة، التى انطلقت مع الثورة الإيرانية فى عام 1979، وأجبرت صدام وبعثه العلمانى على الالتحاق بها بعد عام 1991.
من المفيد لأمريكا أن تعرف أن البغدادى وصحبه هم جزئيا نتاج سياساتها. ومفيد أيضا لإيران أن تعلم أن الثأر لن يولد غير «داعش»، وأن لا انتصار شيعيا ممكن ضد سنة العراق أو سوريا، لا فى حرب الثمانينيات، ولا فى الاجتثاث فى العراق، ولا فى الحرب ضد الإرهاب فى سوريا والعراق.
النهار - لبنان
حسين عبد الحسين