فى كل يوم جمعة تأتى إلى بيتى ما أطلق عليها قبيلتى الصغيرة.. الابنتان وزوجاهما والأحفاد والأطفال. أقضى بعض اليوم أمارس هوايتى المفضلة، وأقصد التأمل والمراقبة، وبخاصة مع الصغار. أراقب السلوكيات والتصرفات بحثًا عن مجالات الاهتمام عند كل طفل، ثم أقارن بينها وبين ما يمكن أن أتذكره عن نفسى فى المرحلة نفسها.
• • •
سمعت من أهلى أنهم سكنوا حلوان بعد الزواج مباشرة ثم السكاكينى قبل أن يستقرا مع طفلين فى شارع سامى بحى الدواوين عندما صدر القرار بتعيين والدى بوزارة المالية. سمعت أيضا من والدتى وشقيقة لها أن العائلة غيرت موقع السكن مرتين قبل الاستقرار لسنوات طويلة فى شقة شارع سامى وأن التغيير كان بسبب أنه فى الحالتين، حالة حلوان وحالة السكاكينى، كان المسكن مسكونًا بالجن. للحق لست أذكر من منهما، أقصد الوالد والوالدة، الراوى ومن الشاهد. إنما أذكر جيدا أن أحدًا منهما لم يكذب رواية الآخر، يجمل أحيانا أو يضيف ولكن لا ينكر أو ينفى.
• • •
نشأت على ظن أن هناك عالمًا آخر ننتقل له عندما ننام أو نزور الضواحى والأرياف. كانت تزورنا بين الشهر والآخر أم إحدى الخادمات وكانت على الرغم من تدهور صحتها الجسمانية والعقلية مبدعة وخلاقة فى نسج حكايات عن عوالم العفاريت والجن. الغريب أننى كنت أميز بين حكايات الفلاحة وحكايات الأهل. لم يكن من خصال جبلت عليها أن أشك فى حكى أمى ولكن كان مسموحًا أن نشك فى صدقية الآخرين ونجادلهم أو حتى نرفضهم. كبرت إلى حد المراهقة ورحت أسأل أبى عن رواية أمى عن عفاريت حلوان وأسأل أمى عن رواية أبى عن عفاريت السكاكينى. لم أسمع ولا مرة واحدة تكذيبًا أو تشكيكًا. كلاهما طلب منى سؤال خالتى الصغرى التى أقامت معهما ردحًا من الزمن إن رغبت فى تفاصيل وافية.
• • •
كانت هذه الفترة من عمرى مفعمة بالذكريات، أكثرها أكاد أثق بصدقية روايتى لها وبعضها يخيل لى أنه من صنع آخرين وما دورى، حسب ظنى ودون أن أدرى، إلا إعادة تدوير الرواية بأسلوب يخصنى وإضافات من نسج خيالى وكلها أنسبها لغيرى. قيل لى، أو لعلنى أتذكر من تلقاء نفسى، أن والدى أصر على إلحاقى بالمدرسة الألمانية بشارع الفلكى وأصرت أمى على أن تذهب معى الخادمة صغيرة الحجم تحمل عنى «عامود» يحتوى على مكونات وجبتى الضحى والظهيرة والفاكهة والحلوى الملحقة بهما. أذكر أيضا وجود راهبات وروائح زكية وحديقة غنية بالأشجار وغرف واسعة مكدسة بأنواع شتى من لعب الأطفال. أذكر أنه قيل لى، على لسان الخادمة أو لسان أمى أو لسان شخص غريب، أن هناك تعليمات للخادمة الأقل حجمًا منى، ولكن الأكبر سنا، تقضى بأن تحملنى إذا أنا شعرت بالتعب أو بالألم المتولد عن احتكاك فخذى السمينين وعودة الدم يسيل منهما.
• • •
قيل لى أيضا، وكما أتذكر بكل الوضوح الممكن، سعادتى للعودة للبيت حيث أجد فى انتظارى «أبلة عيشة»، المعلمة التى أوكل لها مهمة تجهيزى وانضاجى لامتحان يجريه ناظر مدرسة عابدين الابتدائية مع معلمين لإثبات صلاحيتى للقفز إلى «سنة تانية ابتدائى» مباشرة دون المرور بسنة أولى. أعرف الآن وبعد تجارب مع معلمين من أجناس متنوعة أنه لم يأتِ مثل «أبلة عيشة» ليحتل فى قلبى هذه المكانة وفى ذاكرتى هذا المكان.
• • •
أذكر أيضا، وبالوضوح الكافى، تجربتى الممتعة مع مدرس الرسم الذى، بعد محاولات عديدة من التلقين والمحاكاة والرسم بالقلم الأسود وبالألوان أيضا، أطلق حكما لازمنى بقية حياتى، أما الحكم فكان أننى طفل لا ولن يفلح فى الرسم وأجدر به وبأهله وبكل مدرسى الرسم من بعده إبعادى عن هذا الفن وعدم إضاعة وقتهم ووقتى فى التدرب عليه أملا فى أن أحسن ممارسته فى المستقبل. وأما المدرس فكان الشاب الأنيق خفيف الظل وصاحب الكلمات الناعمة وقد صار فيما بعد أحد أشهر ممثلى السينما المصرية تحت اسم كمال الشناوى.
• • •
استيقظت صباح اليوم على صوت «الشغالة» وهى تخبر ابنتى على الهاتف أنها أعدت لى البليلة بالحليب وجوز الهند والزبيب والسكر البودرة تماما كتوجيهات «البيه». هذه البليلة صارت من المنبهات الضرورية للذاكرة عن أيامى فى المدرسة الابتدائية. أذكر أننا كنا ندفع قرشًا كاملاً مقابل التدفئة المنبعثة عن وعاء البليلة وهى تغلى فوق موقد يعمل منذ السادسة صباحًا فى انتظار وصول التلاميذ والمعلمين، ومع التدفئة تأتى البليلة فى صحن الألومنيوم والدخان متصاعد منه، وللتلميذ المواظب يرش البائع القرفة وجوز الهند فوق سطح البليلة الغارقة فى الحليب الساخن.
• • •
كان فرضًا من أمى تناول «الساندويتش» عند الساعة العاشرة، وهو من إعدادها شخصيًا ويحتوى على قشدة وفيرة مستخلصة من الحليب الذى يأتى إلى البيت كل صباح ومع القشدة مربى أو سكر «مرشوش». كما كان فرضًا من المدرسة تناول الغذاء فى مطعم المدرسة ويشتمل على خضرة مطبوخة مع اللحم وأرز على جانب من الصحن، وثمرة يوسفى أو موزة للتحلية.
• • •
أتأمل وأقارن. لا أحد من أطفال قبيلتى استمع كل ليلة إلى حواديت «أمنا الغولة». لا طفل بين الموجودين فى بيتى يوم الجمعة ذهب إلى مدرسة حكومية، أو وقف على رصيف أمام المدرسة يأكل باستمتاع «بليلة» بالقرفة أو بغيرها، أو اصطحب معه كل يوم إلى المدرسة «ساندوتش» قشدة، أو تناول غداء ساخنًا باللحم فى مطعم المدرسة، أو اكتملت سعادته بتلقى دروس خصوصية وهو تحت العاِشرة من عمره مع معلمة بديعة الشكل والجوهر، أو درس الرسم على يد شاب جميل صار فيما بعد ممثلاً سينمائيًا شهيرًا.
• • •
أتأمل هؤلاء الأطفال وأقارن وأتساءل بينى وبين نفسى عن مستقبل جيل لم يحصل فى طفولته على كل، أو مثل، أو بعض هذه المتع.