المسافة بين البرلس والعمرانية ونهضة مصر - سيد محمود - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 2:10 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المسافة بين البرلس والعمرانية ونهضة مصر

نشر فى : الثلاثاء 16 أكتوبر 2018 - 11:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 16 أكتوبر 2018 - 11:10 م

«إننى رجل فقير جدا اشتغل بهندسة السكك الحديدية الأميرية بوظيفة فاعل ويوميتى 70 مليما ومتزوج بيتيمة الأب وأم زوجتى تبيع ترمسا ولى شغف بقراءة الصحف من عهد النهضة المصرية الأخيرة، بينما كنت جالسا أقرأ جريدتكم الغراء بكيت بكاء شديدا فسألتنى زوجتى عن سبب بكائى، فأخبرتها عن التبرع لتمثال نهضة مصر ولم يكن معى نقود اتبرع بها خلاف 200 مليم فقالت زوجتى إنها تتبرع بمائة مليم أيضا وقالت أمها مثلها وكذلك فعل أخوها وعمره 15 سنة، أما اختها الباغة من العمر 13 سنة، فقالت إنها لا تملك إلا 50 مليما فتبرعت بها، ولى طفل عمره سنة ونصف كانت أمه وفرت له 50 مليما فأحضرتهم فأصبح المجموع 600 مليم، أرجوكم أن تتقبلوا منا هذا المبلغ القليل لتوصيله إلى أمين صندوق تمثال نهضة مصر وتتوسطوا فى قبوله ونكون لكم من الشاكرين، هذا وإنى أدعو جميع الفعلة زملائى فى الزقازيق وخلافها وأدعو أيضا جميع العمال للتبرع للتمثال لنتسابق مع أسيادنا الأغنياء زادهم الله من فضله».
كانت هذه الفقرات من رسالة مطولة كتبها المواطن المصرى الشحات إبراهيم الكيلانى الفاعل بسكك حديد الزقازيق وإرسلها لجريدة الأخبار التى رأسها الصحافى أمين الرافعى وتبنت فى عشرينيات القرن الماضى حملة اكتتاب شعبى لإقامة تمثال نهضة مصر لرائد النحت المصرى الحديث محمود مختار.
الرسالة موجودة فى الكتاب الموسوعى الذى أصدره الناقد بدر الدين أبوغازى عن مختار لكنها اختفت تماما من الشارع المصرى الذى يتابع عبر وسائل التواصل الاجتماعى هواية احترفها المسئولون وهى الاعتداء على التماثيل والإصرار على دهانها.
ويمكن بسهولة رصد الكثير من صور هذا الاعتداء الذى كان فى الماضى يسهل تفسيره بوجود نزعة دينية محافظة نمت مع نمو جماعات الإسلام السياسى عبر أكثر من أربعين عاما، لكن واقع الحال يشير إلى أن انحسار تلك الجماعات وتراجع تمثيلها السياسى بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٣ لم ينتج عنه نزع الأفكار الداعية لتحريم الفنون بكل أشكالها وأولها فن النحت لأن شيوع ذهنية التحريم استوطن العقل العام وتعمقت الأصولية على نحو لا يمكن إنكاره.
وبات من النادر العثور على مرجعية دينية من تلك الوجوه التى تملأ الفضائيات على استعداد لتقديم فتاوى كتلك التى قدمها الإمام محمد عبده بشأن التعامل مع الفنون الجميلة وأولها فن النحت الذى عانى من حصار فى أغلب كليات الفنون لدرجة أن أحد الأقسام كاد قبل عشر سنوات أن يتعرض للإغلاق لأنه لم يجد أى طالب يتقدم للالتحاق به وكانت كارثة بكل المقاييس.
ويكفى أن تنظر حولك لترى مئات العلامات الدالة على تحريم الفن وأى شكل من أشكال الإبداع الفنى خاصة وأن السياسات الثقافية لا تزال عاجزة عن تقديم طرح بديل وتعانى من خلل واضح فى الرؤى والأهداف والاستراتيجيات التى تخلط بين مهمه التوجه للمثقفين والتوجه لعامة الناس.
والشاهد أن النخب المدنية أو العلمانية لم تتح لها الفرص التى تمكنها من انتزاع المساحات التى هيمن عليها العقل الأصولى وبلغ أنصاره ما بلوغه من مناصب فى مؤسسات الخدمة العامة وينطلق أغلبهم فى قرارته من فكرة العداء للفن أو النظر إليه باستخفاف.
ولعل ما جرى أخيرا فى مهرجان البرلس الدولى للرسم على المراكب يقدم دليلا جديدا على انعدام الوعى بقيمة الاستثمار فى الأجيال حيث تجاهل أحد المسئولين عن مديرية التعليم هناك طلبا تقدمت به إدارة المهرجان الرائع لإقامة ورش عمل لأطفال المدارس مهداة من فنانى مهرجان يشارك فيه فنانون من ١٨ دولة ويحظى بكل أشكال الدعم الرسمى ويقف خلفه فنان كبير هو عبدالوهاب عبدالمحسن الذى عاش فى المدينة وانتمى لها، ووجد عونا لا حدود له من فنانين وزملاء.
وفى الحقيقة لم يكن موقف مدير الإدارة التعليمية يمثل مفأجاة لأحد من الفنانين المصريين لأنه تعبير مثالى عن وعى ممثل رسمى لوزارة التعليم التى لا تزال رغم كل أحاديث التطوير غير معنية بحصص التربية الفنية وفيها يطالب المعلمون التلاميذ بتصميم ميدالية لعيد الفلاح قبل أن تعتنى بتعليمهم الحد الأدنى للتذوق الفنى أو التربية المتحفية، ناهيك عن دروس تاريخ الفن التى تمثل زادا رئيسيا لطلاب المدارس الدولية وحدها ولا عزاء لأبناء الفقراء الذين يشترون الألوان وكراسات الرسم بناء على التعليمات ولا يستعملونها ابدا.
أما المحليات فهى تضرب عرض الحائط بكل برتوكولات التعاون الموقعة مع وزارة الثقافة وتتجاهل عن عمد ومع سبق الإصرار والترصد قرار مجلس الوزراء بالرجوع لوزارة الثقافية ونقابة التشكيليين قبل اتخاذ اية اجراءات بشأن صب تماثيل جديد أو ترميم القديم منها.
وللأسف فى كل الوقائع الشبيهة وأحدثها واقعة تمثال العمرانية لم نسمع عن إجراء واحد تم اتخاذه للتحقيق مع مسئول حيث تتم تسوية كل الملفات عملا بقاعدة مصرية تاريخية هى (المسامح كريم).
ويكشف هذا التراخى عن غياب الحد الأدنى من المسئولية المجتمعية، فضلا عن انعدام التنسيق بين الوزارات المعنية بالهوية البصرية لكافة مدن مصر وهى مسالة لا يجوز النظر لها باستهانة أو استهتار، فالدول المتحضرة تضع مثل هذه الأمور على رأس أولوياتها وتعتبرها مسألة حياة أو موت.
وعلينا إذا كنا على استعداد للحديث عن مصر جديدة أن نفكر بجدية فى رسالة عامل السكك الحديد ومغزاها الذى دفعه للتبرع من أجره اليومى ليشارك فى بناء تمثال ونتساءل عن تدهور هذا المغزى والحال الذى وصل إليه الجمال بعد مائة عام من التنوير أو التنويم؟!