مياه كثيرة تدفقت تحت الجسور فى الأيام الأخيرة. تدفقت بسرعة وبتدافع غير عادى مخلفة مشهدا غير مألوف. لست متأكدا على كل حال إن كان الجديد فى المشهد ثابت الأركان وأن المياه لن تعود إلى مجاريها. لست متأكدا ولا أحد أقنعنى بأن ما تغير باقٍ معنا وأن الأمل عاد كبيرا فى نهاية قريبة لفوضى كادت تدمر كل ما هو قائم.
سمعت من ألمانيا أن حوارا يجرى هناك على مستويات مختلفة. الحوار جاد ككل حوارات ألمانيا التى جرت فى أوقات وحالات تغيير المصير. ليس جديدا أن نسمع أحكاما حازمة فى سياسات وعلاقات مع دول أخرى، ولكن الجديد فى الحالة الراهنة أن تتعلق هذه الأحكام بأسس النظام السياسى الألمانى التى وضعت وكان الظن أنها رسخت. اليوم فى ألمانيا هناك من يردد علنا بأن الألمان تنازلوا عن بعض مصالح بلادهم القومية مقابل الاحتماء بالمظلة الدفاعية الأمريكية. فى رأى هؤلاء أن هذا الاحتماء صار باهظ التكلفة.
قليلون هم الذين ينكرون حقيقة أثبتتها تجارب أوروبا الموحدة على امتداد سنوات عهد منطقة اليورو، حقيقة أن اليورو ما هو إلا مارك ألمانى معدل وباسم مختلف، وأنه بدون ألمانيا ما وصل الاتحاد الأوروبى إلى ما وصل إليه حتى صاروا يقارنون نفوذه بنفوذ واتساع الإمبراطورية الرومانية المقدسة. الفضل كله يعود لألمانيا باستثناء دور المظلة الدفاعية الأمريكية التى تعهدت حماية هذا المشروع ضد طموحات روسيا وأطماعها فى أوروبا. ليس غائبا عن العقل السياسى الألمانى أن السياسات الأنجلو أمريكية قامت على أساس مبدأ الفصل بين ألمانيا وروسيا ومنع قيام أى نوع من الشراكة القوية بينهما. وليس غائبا عن هذا العقل تفاصيل ما تسببت فيه حرب روسيا فى أوكرانيا، وهى الحرب التى يرتبط بنشوبها شكوك، أكثرها يتهم الولايات المتحدة بالمسئولية عنها ولا يمكن أن تكون السياسة الألمانية بعيدة جدا عن العلم بما كان يدبر لروسيا فى قيادة حلف الناتو فى بروكسل.
تسببت حرب أوكرانيا فى الكثير، وبعضه ما يزال غير قابل للتصديق وبعضه غير قابل للقبول أو الاستسلام له. أعادت الحرب إلى الأذهان الألمانية فكرة العدو التاريخى الرابض عبر الحدود وأقصد العملاق الروسى، القطب الثانى فى النظام العالمى الجاهز للرحيل، أو الراحل فعليا. كان يمكن أن تؤدى هذه الحرب إلى توسيع رقعة نفوذ الحلف الغربى وتعميق دور ألمانيا فيه، وهو ما حدث بالفعل فى بداية الحرب ولكن فى مرحلة أخرى من الحرب تغيرت بعض ردود الفعل. رأينا قطاعات هامة من شعوب وسط أوروبا وفى فرنسا وإيطاليا تعترض على الاستمرار فى تقديم الدعم المادى والحربى لحكومة أوكرانيا ليس تعاطفا مع موسكو بقدر ما هو رد فعل للأزمات الاقتصادية المتتالية والمعقدة.
• • •
ظهر واضحا التناقض داخل قيادات الطبقة الحاكمة فى ألمانيا، إن صح التعبير. ففى ألمانيا كما نعلم وتأكدنا خلال الأسابيع الأخيرة تتولى المسئولية فى قطاع السياسة الخارجية وزيرة من حزب الخضر تؤيد حكومة أوكرانيا والسلوك الأمريكى ضد روسيا إلى حدود قصوى. من ألمانيا نفسها سمعنا أن أحد كبار القادة العسكريين يخرج عن المألوف ويبدى رأيه الهام فى العلاقة مع روسيا. نقل عن الأدميرال كاى أشيم شونباخ قوله إن روسيا قوة يجب الاعتراف بها وأن الاستيلاء على القرم واقع ثابت. هوجم الأدميرال بشدة فلجأ إلى الاستقالة أو أجبر عليها. لم يحسم الأمر فى ألمانيا بل ظل مفتوحا تغذيه تطورات شتى، منها على سبيل المثال الحملة الناشبة ضد الولايات المتحدة التى فرضت على ألمانيا ودول أخرى فى أوروبا دفع قيمة للغاز المستورد من أمريكا أعلى سبعة أضعاف من القيمة التى كانت تدفعها للغاز الروسى الذى حرمتها من الحصول عليه الولايات المتحدة.
أتصور أن العقل السياسى الألمانى المدرب على الانضباط والاستقرار يرفض أن يرى أوروبا تنزلق بسرعات مطردة نحو هاوية الفوضى دون أن يخرج من قمقم وتقاليد الحلف الأطلسى ويحاول وقف هذا التدهور. فى الوقت نفسه أتوقع أن تقابل أى محاولة من هذا القبيل مقاومة شديدة من جانب المثاليين والرجعيين والمتزمتين أيديولوجيا. أمامنا اليمين المتطرف الإيطالى يصل إلى الحكم فى روما مدعوما بقوى فساد هائلة يمثلها سيلفيو برلسكونى وحزب الرابطة وقوى الحزب الفاشى. جورجيا ميلونى بصفتها رئيس الحكومة ترفع شعارات الحلف الأطلسى ضد روسيا وبرلسكونى يصر على مساندته المعنوية لموسكو، وبالتدريج ينطلق هذا الشرخ فى الحكومة إلى الرأى العام وأجهزة الإعلام. من ناحية أخرى اتسع خرق النزاع بين إيطاليا وفرنسا بعد أن جددته أزمة المهاجرين الأفارقة. إما فرنسا العمود الثانى فى الخيمة السياسية التى تظلل على أعضاء الاتحاد الأوروبى فقد فاجأت العالم وأوروبا بوجه خاص وألمانيا تحديدا باستراتيجية أمنية جديدة أطلقها الرئيس ماكرون بنفسه أمام حشد من كبار القادة العسكريين. فوجئ الجميع فى فرنسا وأوروبا وفى العالم باستراتيجية فرنسية تركز على أفريقيا والجنوب متجاهلة بعض الشيء أوروبا التى تئن تحت ضغط العجز الأوروبى عن وضع استراتيجية دفاعية لأوروبا. هناك فى مكان آخر من القارة شرعت أمريكا وعززت بديلا مخيفا ألا وهو تشجيع الدول الصغيرة فى شمال أوروبا للتصدى للخطر الروسى باستراتيجية دفاعية أطلسية المظهر والجوهر على حساب استراتيجية أوروبية طال انتظارها. لا أتوقع دعما قريبا من الواقعيين فى منظومة الدفاع الألمانية لهذا التوجه بين دول أوروبا الصغيرة المطلة على البلطيق ومعها بولندا، أحد النجوم الصاعدة من جديد والمحملة بتاريخ لن يبرر أو يتحمس لمواقف أمنية من جانب أى من ألمانيا وروسيا تجاه قضايا القارة.
حتى إنجلترا التى تجسد الخلفية لهذا المشهد الأوروبى كما جسدت من قبل الخلفية لكل مشاهد التاريخ السياسى الأوروبى بدت خلال الشهور الأخيرة فى أسوأ صورها. رأينا الفوضى الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسى ضمن ظواهر انحدار لا تبشر بأى خير ممكن لمستقبل إنجلترا أو مستقبل أوروبا. أضاف لقلق الساسة فى ألمانيا وخارجها حقيقة أنه يقوم على قيادة الحزبين الرئيسين فى إنجلترا قادة غير مؤهلين سياسيا وبخاصة فى الشئون الأوروبية. صار الألمان يلاحظون فى الوقت نفسه أن الدولة العميقة فى إنجلترا عادت تقتحم أوجه من النشاط السياسى لم تتعود على الاقتراب منه إلا نادرا. نسمع بين الفينة والأخرى توجيهات سياسية وعسكرية تصدر من أجهزة أمنية سرية متوجهة إلى مسئولين وجهات اختصاص فى مختلف دول الحلف الأطلسى. لا شك أن تصرفات من هذا النوع تثير قلق السياسيين فى ألمانيا كما فى فرنسا وغيرها.
جديد أيضا وإن كان غير مؤكد تماما التغير فى لهجة الدبلوماسية الأمريكية فى كواليس مؤتمرى المناخ المنعقد فى منتجع شرم الشيخ فى مصر وقمة العشرين المنعقد فى منتجع بالى فى إندونيسيا. انتبه الأمريكيون فيما يبدو إلى أنهم أخطأوا دبلوماسيا حين صنفوا دول العالم ضمن صنفين متناقضين ومتواجهين بالعنف أحيانا وبالعداء دائما، صنفان لا ثالث لهما هما الديموقراطية والأوتوقراطية، أى الدكتاتورية. اكتشفت واشنطن أن الصين وروسيا استفادتا من هذا التصنيف منذ اعتبرت معظم دول العالم النامى نفسها بهذا التصنيف وقد صارت بالضرورة حليفة لمعسكر تقوده روسيا والصين وخصما مرفوضا من دول المعسكر الغربى.
• • •
دول أوروبا مهددة بشتاء غير عادى وتدهور فى الأمن والاقتصاد ما لم يسرع أصحاب القلوب الدافئة فى روسيا وأوكرانيا وأمريكا ودول بعينها فى الحلف الأطلسى بوقف معدلات الانحدار المتسارع فى أنماط سلوكها نحو أنماط خصام وعداء.