كنت من جيل السبعينيات الذى عاش حرية الدعوة واعتبرها حقا مكتسبا له ولم يدرك أنها أقوى من السلطة.. وهذا الجيل كان يريد إقامة الدولة مع الدعوة.. أردنا إقامة الدولة سريعا وعلى عجل وعلى طريقة الثورات الإسلامية الشعبية والمسلحة فى الوقت نفسه.. كنا فى غاية التعجل نريد اختصار الزمن والقفز على سنن الله فى كونه.. أو تجاوز هذه السنن التى لم نفهم عنها الكثير وقتها ومنها سنة التدرج الماضية فى الإنسان والحيوان والنبات والكون كله.
كنا نريد أن نزرع اليوم لنحصده غدا.. فحصدناه علقما مرا.. فلم نتركه ليستوى على سوقه فتحصده الأجيال التالية ناضجا.. أو نصبر فنسعد بثمرته وهى تنضج رويدا رويدا.. لقد نسينا أن الله لا يعجل لعجلة أحد ولن يغير سننه محاباة لأحد.
كانت التضحيات لا تهمنا مهما كانت جسيمة.. كان هناك شيخ وقور يريد أن يقنع جيل السبعينيات ألا يصطدم بسنن الكون فمن اصطدم بها كسرت رأسه حتى وإن كان مؤمنا صالحا.
كان يريد لهذا الجيل ألا يتعجل قطف الثمار.. وألا يبصق فى الآبار لأنه سيحتاج أن يشرب منها.. أو يلقى الأحجار فى الآبار التى لا تعجبه لأنه حتما سيظمأ كثيرا وطويلا ولن يجد سوى هذه الآبار التى قذفها بالأحجار.
إنه الشيخ عمر التلمسانى.. ولكن أنَّى للشباب الذى غلبت حماسته على عقله أن ينصت لمن خبر الحياة طويلا.. أو يبدأ من حيث انتهى الآخرون.
إن أفضل ما تعلمته من الشيخ عمر التلمسانى ولم أفهمه إلا متأخرا ولم أعرف قيمته إلا بعد سنوات قولته: «لا أريد أن تدخلوا السجن.. فمهمتى أن أخرج الناس من السجون.. لا أن أدخلهم إليها».
تدبرت الكثير من كلماته وأنا أكتب فكر مبادرة «منع العنف» وتحويل الجماعة الإسلامية من جماعة تحمل السلاح ضد الدولة إلى جماعة سلمية دعوية.. وذلك بعد سنوات من وفاة التلمسانى.
قلت لنفسى «فلتكن مهمتى منذ اليوم إخراج الناس من السجون.. وليس إدخالهم إليها».. سعيت مع غيرى فى الإفراج عن الآلاف وتحسين حياة آلاف المعتقلين وإعادة الكرامة الدينية والإنسانية لعدة آلاف من المعتقلين كانوا يعيشون مأساة حقيقية.. فعاشوا بكرامتهم فى السجون.. وحصل بعضهم على الماجستير والدكتوراه و.. و.. حتى خرجوا بسلام.
عشقت تفريج كربات الناس عامة والمعتقلين خاصة.. أدركت أن القائد الفاشل هو الذى يدخل جنوده فى المعارك الخاسرة.. معركة إثر معركة.. والأفشل منه هو الذى يلقى بجنوده فى معارك لا طائل من ورائها أو يحارب بجنوده فى غير ميدان.
تأملت الذين يدفعون بالشباب إلى السجون دفعا.. أو يجعلون مهمتهم الوحيدة أن يقتلوا دون طائل أو نتيجة.. ليلقى الجنود الشهادة ويحاسب الله هؤلاء القادة على تفريطهم فى دماء الشباب وإلقائهم كفريسة ولقمة سائغة لخصومهم.. دون أن يجنى الإسلام أو الأوطان من هذه المعارك شيئا.. إن الله سيحاسب القادة غير حساب الأفراد.
لقد قلت لنفسى منذ سنوات طويلة: «فلتكن مهمتى هى مهمة أمثال عمر التلمسانى الذى قام مع الهضيبى الأب بمراجعتين عظميتين فى تاريخ الإخوان أولها: ترشيد وإلغاء مسيرة النظام الخاص.. والثانية: هى محاربة فكر التكفير الذى انتشر بين الإخوان فى السجون فى الستينيات.
وكان التلمسانى سببا رئيسيا فى الإفراج عن الإخوان 1971 م.. وهو الذى ضمن القطبين من الإخوان عند السادات ليخرجوا 1974 رغم علمه اليقينى أنهم يكرهونه ويكرهون فكره.. وكان سببا فى الإفراج عن الإخوان عام 1981 بعد أن اكتظت السجون بالآلاف منهم.. فاستطاع بحكمته وحنكته أن يضمن لهم خروجا آمنا.. بل وبداية للدخول فى مجتمع النقابات والمجتمع السياسى بسلاسة ورفق وتلطف.. وما أدراك ما قيمة التلطف فى الدخول فى مؤسسات الدول عامة وفى مصر خاصة