يثير سلوك الإسرائيلى، سواء أكان مدنيا أم عسكريا، داخل إسرائيل أم خارجها، تساؤلات حول العقيدة التى تشرعنه وتباركه، وحول التعليم الذى يغذيه ويرفده. سلّطت واقعتان، جريتا مطلع هذا الشهر، الأضواء على طبيعة هذا السلوك. جرت الأولى خارج إسرائيل، فى مدينة أمستردام الهولندية، قبيل مباراة فى كرة القدم بين فريق «مكابى تل أبيب» وفريق «أياكس أمستردام»، الهولندى، فى إطار دورى المجموعات الأوروبى، واتسمت بعنصرية وقحة ضد العرب، كافة، وبروح انتقامية بشعة من الهولنديين - خاصة العرب والمسلمين منهم - بسبب مناصرتهم للقضية الفلسطينية، واحتجاجهم على الإبادة التى يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلى ضد المدنيين العزل فى غزة، سيما النساء والأطفال. ردد الجمهور الإسرائيلى - نحو ثلاثة آلاف مشجع - الذى رافق فريقه شعارات نابية قبيحة ضد العرب، وهتف داعيا جيش الاحتلال إلى استكمال مسيرة الإبادة، واعتلى بعضهم جدران بعض البيوت، التى علّقت أعلاما فلسطينية ومزقها. سلوك إجرامى، عنصرى، انتقامى، متغطرس، بامتياز، سيما أنه كان خارج إسرائيل.
أما الواقعة الثانية، الدالّة على هذا السلوك العنصرى، المشبع بروح الانتقام الوحشى، فقد جرت خلال مراسم تأبين أحد جنود الجيش الإسرائيلى، الذين قتلوا فى قطاع غزة. عبَّرت كلمات التأبين، التى ألقاها أقارب وزملاء الجندى، عن ترسخ سلوك انتقامى، وعنصرى بين جنود الجيش، وعن كونه ظاهرة جماعية، مستشرية بينهم، وليس مجرد حالات فردية، أو استثناءات، لا يقاس عليها، وعن تعمد ممارسة هذا السلوك، بوصفه هدفا فى حد ذاته. هكذا عبّر شقيق الجندى، القتيل، على سبيل المثال، عن تبنى أخيه لفكرة قتل الأطفال والنساء، وعن تعمده ذلك، قائلا: «يارب العالمين، نحن نريد انتقاما، نريد انتقاما. لقد دخلتَ إلى غزة لكى تنتقم من أكبر عدد ممكن من النساء، والأطفال، ومن كل من تقع عليه عيناك، أكبر عدد ممكن، هذا ما أردته. وفى هذا اليوم، بعد عام من «سمحات توراة» (عيد يختتم عيد العُرُش انطلقت فيه عملية «طوفان الأقصى»)، بعد أن اعتقدنا أننا سنذبح العدو بعد عام من هذا اليوم، نذبح فيه الجميع، نطردهم من هنا من الأرض (لاحظ نظرته إلى أرض غزة بوصفها جزءا مما يُسمَّى «أرض إسرائيل» يجب طرد أهل غزة منها)، نجد أنفسنا هنا فى جنازتك». ثم أردف قائلا: «سينتقم كل شعب إسرائيل، بعون الله، لدمك. ليس الانتقام لحرق البيوت، ليس الانتقام لحرق الأشجار، ليس الانتقام لحرق السيارات. بل الانتقام لدم عبدك المراق».
فى المناسبة، نفسها، ألقى قائد الجندى، القتيل، كلمة تأبين، أقره فيها على حرق بيوت الفلسطينيين من أجل الإثارة وخلق «حالة»، أو «جو» احتفالى قال فيها: «كنتَ أكثر إنسان مرحا وإلقاء للنكات بالفصيلة. عرفنا ذلك للمرة الأولى فى غزة عندما أحرقت بيتا بدون تصديق عسكرى من أجل عمل «جو»». تعبر الكلمات الواردة فى التأبين بشأن الانتقام عن مفهوم سائد فى المجتمع الإسرائيلى قبل وبعد السابع من أكتوبر 2023م. ربما ازداد المفهوم رسوخا بعده. لا يقتصر تبنى هذا المفهوم على طائفة المتدينين فقط. إذ يحفل التاريخ الإسرائيلى بالعديد من الشواهد التى تؤكد تبنى غير المتدينين له. فى هذا الصدد، يقول، بن درور يمينى، (يديعوت أحرونوت)، وإن كنا نختلف معه، فى أن أمثال هؤلاء مجرد نبت شيطانى: «يجب أن نعترف. يوجد بيننا مجرمون. إن من يرتكبون أو يبررون ذبح النساء والأطفال أو حرق البيوت، هم نبت شيطانى بداخل شعب إسرائيل. يجب إلحاقهم بمعسكرات من أجل إعادة تأهيلهم [...] لقد تربوا على أيديولوجية عنصرية منحرفة».
• • •
ليس فقط التنشئة العنصرية المنحرفة هى المسئولة عن هذا السلوك البشع، كما يقول، بن درور يمينى، وإنما سكوت جيش الاحتلال عليه، والتقليل من شأنه، وعدم محاسبة مرتكبيه، وغض الإعلام الإسرائيلى، فى معظمه، الطرف عنه، وصمت الساسة، وعدم إدانتهم له. يكفى أن نشير إلى أن الإعلام والساسة تجاهلا فى واقعة «أمستردام»، السلوك العنصرى الشرير، لمشجعى الفريق الإسرائيلى، وسلطا الأضواء على رد فعل الجماهير العربية، وتقمصا دور «الضحية» المعتاد، ورددا الشعارات الممجوجة، بشأن ما يُسمَّى «معاداة السامية».
العنصر الأهم فى تنمية هذا السلوك إلى جانب كل العوامل السابق ذكرها، هو مفهوم الانتقام فى التوراة، نفسها، وفى الوصايا (الإلهية) التى تحض اليهودى عليه. إذ تعد فكرة الانتقام، فى التوراة، فكرة شائعة؛ وينظر إليها بوصفها واجبا وفرضا دينيا ملزما؛ فقد ورد فى سفر «العدد» (الإصحاح 31، الآيات 1-18)، أن رب بنى إسرائيل أمر موسى، قبل وفاته، بأن ينتقم لهم من «المديانيين» (شعب ورد ذكره فى التوراة، منهم الكاهن، يثرو، صهر موسى، نفسه)، أرسل شيوخه شخصا يدعى بلعام للعن بنى إسرائيل، فاستحق الانتقام، الذى تصوره التوراة على النحو التالى: «وكلم الرب موسى قائلاً: (انتقم نقمة لبنى إسرائيل من المديانيين، ثم تُضمُّ إلى قومك). فكلم موسى الشعب قائلا: «جردوا منكم رجالاً للجند، فيكونوا على مديان ليجعلوا نقمة الرب على مديان. ألفا واحدا من كل سبط من جميع أسباط إسرائيل ترسلون للحرب».
اختير من ألوف إسرائيل ألفٌ من كل سبط. اثنا عشر ألفا مجردون للحرب. فأرسلهم موسى ألفا من كل سبط إلى الحرب. (...) وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم، ونهبوا جميع بهائمهم، وجميع مواشيهم وكل أملاكهم. وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم، وجميع حصونهم بالنار. وأخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم. وأتوا إلى موسى وألعازار الكاهن وإلى جماعة بنى إسرائيل بالسبى والنهب والغنيمة إلى المحلة إلى عربات موآب التى على أردن أريحا. (...) فسخط موسى على وكلاء الجيش، رؤساء الألوف ورؤساء المئات القادمين من جند الحرب. وقال لهم موسى: «هل أبقيتم كل أنثى حية؟ (...) فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال. وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر اقتلوها».
بل إن الانتقام فى التوراة فريضة تبيح الإبادة المطلقة، أو الإبادة الجماعية، بلغة العصر، كما هو الحال إزاء شعب «العماليق»، الوارد ذكره فى التوراة، الذى قاوم الغزو العبرانى لأرض كنعان/فلسطين، فحُق عليه المحو، كما فى سفر «التثنية» (الإصحاح 25، الآيات 17-19): «اذكر ما فعله بك عماليق فى الطريق عند خروجك من مصر. كيف لاقاك فى الطريق وقطع من مؤخرك كل المستضعفين وراءك، وأنت كليل ومتعب، ولم يخف الله. فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك حولك فى الأرض التى يعطيها الرب إلهك نصيبا لكى تمتلكها، تمحو ذكر عماليق من تحت السماء. لا تنس». وقد استشهد بنيامين نتنياهو، غير مرة، بهذا النص التوراتى، ليؤكد عزم بلاده على إبادة أهل غزة، مثلما يحدث على أرض الواقع الآن، ونعايشه.
• • •
تتحدث التوراة عن استجابة الرب لدعاء شمشون بالانتقام، الذى لا يبقى ولا يذر، أيضا، من الشعب الفلسطينى، كما فى سفر «القضاة» (الإصحاح 16،الآية 28): «فدعا شمشون الرب وقال: يا سيدى الرب، اذكرنى وشددنى يا الله هذه المرة فقط، فانتقم نقمة واحدة عن عينى من الفلسطينيين». ويوصف إله بنى إسرائيل، فى التوراة، إلى جانب وصفه بالإحسان والرحمة، بأنه إله منتقم أيضا، كما فى سفر «التثنية» (الإصحاح 32، الآية 35): «لى النقمة والجزاء»؛ هو إله ينتقم من أعدائه وكارهيه سواء أكانوا من بنى إسرائيل، كما فى سفر «إرميا» (الإصحاح 9، الآية 5): «أما أعاقب على هذا، يقول الرب؟ أو ما تنتقم نفسى من أمة كهذه؟»، أم من غير اليهود، كما فى سفر «التثنية» (الإصحاح 32، الآية 43): «تهللوا أيها الأمم، شعبه، لأنه ينتقم بدم عبيده، ويرد نقمة على أضداده، ويصفح عن أرضه عن شعبه». وطبقا لهذا، يوجد فى الصلوات والترانيم المختلفة رجاءٌ وطلب بأن ينتقم الرب من الشعوب التى مست ببنى إسرائيل، كما سفر «المزامير» (الإصحاح 149، الآيات 1-2)، الذى يبدأ بدعوة الرب إلى الانتقام من الأعداء الذين ينكلون ببنى إسرائيل؛ وهو يُتلى، غناء، قبيل ختام صلاة الفجر من كل يوم أربعاء. ويُنظر إلى هذا الانتقام بوصفه فرضا دينيا: «ليبتهج الأتقياء بمجد. ليرنموا على مضاجعهم. تنويهات الله فى أفواههم، وسيف ذو حدين فى يدهم. ليصنعوا نقمة فى الأمم، وتأديبات فى الشعوب. لأسر ملوكهم بقيود وشرفائهم بكبول من حديد. ليجروا بهم الحكم المكتوب. كرامة هذا لجميع أتقيائه. هللويا».
يقول الحاخام، جور جالون، فى تفسيره للنص: «تثير التعبيرات: انتقم نقمة بنى إسرائيل وانتقام الرب، تحفظا لدى كثيرين. يبدو الانتقام فى نظرنا أمرا سلبيا وإشكاليا، لكن يُستشف من كلمات الملك، داود أن الانتقام فرحة وابتهاج، وأنه يفضى إلى المجد والرفعة»؛ وهو ما يتضح من «المزمور» (الإصحاح 58، الآية 10)، أيضا: «يفرح الصدِّيق إذا رأى النقمة. يغسل خطواته بدم الشرير». ويضيف الحاخام جالون: «يوجد اليوم، أيضا، من يترحمون على المتوحشين، حارقى أرضنا المقدسة، الذين يهلكون الحرث، والغابات، والحقول والكروم، متلفى العالم، ونحن لا نخجل من الدعوة إلى الانتقام، وإلى اجتثاث الأشواك من الكرْم، وإلى الجهاد فى سبيل الله فى العالم».
• • •
إنه سلوك يعكس مدى هيمنة النص التوراتى ومدى تأثيره.