ماهى قمُة الأولويات فى المشهد العربى الراهن؟ فى اعتقادى أنه الرفض الكامل لأى حل، فى أى قطر عربى مٌبتلى بصراعات داخلية، يؤدى إلى تقسيم ذلك القطر على أية أسس كانت، خصوصا إذا كانت أساسا دينية أو مذهبية أو ثقافية، بل وحتى إن كانت أساسا سياسية.
هذا القول ينطبق على الأخص على أقطار العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان. وهو بالطبع سينطبق أيضا على كل قطر آخر مرشح لدخول نفس المحن والإحن التى تعيشها تلك الأقطار الخمسة.
لا يختلف اثنان فى أن الأولويات الأخرى، مثل الانتقال إلى الديمقراطية أو رفع التمييز بين المواطنين بسبب الدين أو المذهب أو العرق أو الجنس أو محاربة الفساد، هى الأخرى بالغة الأهمية. ولكن بشرط أن لا يكون ثمن الوصول إليها تجزئة الأوطان.
كل تلك الأولويات ستتحقق إن عاجلا أو آجلا، فالشعوب العربية ستظلٌ تناضل سنة بعد أخرى من أجل تحقيقها. وهى شعوب أثبت تاريخها، ويثبت حاضرها، أنها شعوب ذات مخزون هائل من الإرادة وبذل التضحيات الجسام. ولذا فإنها أولويات تستطيع الانتظار والتأجيل إذا فرضت الظروف ذلك.
أما أولوية وحدة الأوطان فإنه لا يمكن التلاعب بها، أخذا أو عطاء، قبولا مؤقتا أو حلا لأية إشكالية. ففى أمة، هى فى الأصل والأساس قد فرضت عليها التجزئة، فإن تجزئة المجزأ هى عبارة عن انتحار عبثى وهى دخول فى تيه تاريخى مظلم ومجهول العواقب، تجزئة المجزأ هى خط أحمر على المستويين الوطنى والقومى، وهى إعلان حرب على الكينونة الوجودية للوطن العربى كلُه وللأمة العربية كلها. كلُ مكونات الأمة دون استثناء ستضار. فى المدى المنظور لن يربح أحد.
من هنا فإن ما يجرى فى الأقطار العربية الخمس يجب أن يحكمه ذلك الخط الأحمر. إن نجاح أية عملية جراحية بتصحيح أو شفاء سقم هذا القطر أو ذاك ستكون ارتكاب جريمة قتل إن هى قادت إلى تجزئته، وبالتالى موته.
ولعل أوضح مثال على ما نؤكد هو قيام الدويلات الطائفية الممزقة للأوطان، وذلك على يد مختلف مسميات الجماعات الجهادية التكفيرية التى تتبنى جميعها ثقافة التمييز ضد جماعة هذا الدين أو ذاك المذهب أو تلك الأيديولوجية السياسية. إنها هنا لا تبنى وطنا وإنما تمزق وطنا وأمُة.
إننا نذكر هذا المثال لأن أجزاء من شعوبنا تنسى، فى غمرة حماسها الدينى واعتقادها بأنها تناصر الدُين على الكفر، بأنها فى الواقع تناصر قوى التجزئة المميتة للأوطان وللأمة.
وإذا كان الانتصار الجهادى الميليشاوى، الممارس لقيم دينية طائفية تمييزية متخلفة، وبالتالى الممارس لقيم ثقافية سياسية دموية جائرة بحق غير أتباعه، سيكون انتصارا للتجزئة فى نهاية المطاف، فإن الأمر ينطبق على شعارات وحلول المحاصصة. مفهوم المحاصصة، سواء على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية أو لغوية، ليس حلا بديلا عن حكم الاستبداد والفساد الذى يحكم أغلب أرض العرب.
إنه هو الآخر حل يهيئ للوصول إلى تجزئة الأوطان بعد أن ينهك ويضعف الحياة السياسية فى تلك الأوطان. لنتذكر أن قطرا عربيا مثل لبنان كاد أن يصبح عدة أقطار منذ بضعة عقود، وهو اليوم فى شلل سياسى مرعب. فى قلب ما كاد أن يحدث فى الماضى وما يحدث اليوم الإصرار على البقاء فى دوامة المحاصصة التى مع مرور الوقت تجعل الحياة السياسية مياها راكدة آسنة غير قابلة للتغيير.
من هناك فإن الحديث عن المحاصصة فى العراق أو سوريا أو ليبيا أو اليمن لن يكون إلا مقدمة لمثل تلك الحياة السياسية الآسنة البليدة، التى بدورها ستتحدث فى البداية عن الكونفيدرالية أو الفيدرالية، لتنتهى فى النهاية إلى تقسيم.
ألا نأخذ درسا من التمدُد الصهيونى فى واقع الشمال العراقى لنعرف مخاطر المحاصصة؟
لنكن صريحين وجريئين إلى أبعد الحدود. فإذا كان استبدال الأنظمة السياسية السابقة، والتى لا شك أنها مليئة بالأخطاء والخطايا، سيكون بالحلول التجزيئية للأوطان فإن الخير فى بقائها مؤقتا فى أوطان موحدة إلى حين نضوج نضالات شعبية قادرة على تغييرها ضمن وحدة الأوطان، الوحدة التى يجب أن تبقى خطا أحمر مقدسا غير قابل للمساومة.