«يسعد صباحك يا حلو».. بصوتها الناعم تغنى فيروز، بينما أبوسلمان الحلاق يمارس عمله فى رأس زبون خمسينى، قبل أن يقف الصبى سامى ابن حارة الشهيد عبيد الله فى مخيم قلنديا بالضفة الغربية أمام باب المحل حائر العينين حزينًا على ضياع حمامته الزاجلة التى أهداه إياها خاله كمال، فصارت معشوقته الأثيرة.
بهذا المشهد الافتتاحى لفيلمه يشركنا المخرج الفلسطينى رشيد مشهراوى فى رحلة طويلة عبر دروب الضفة بدءًا من مخيم قلنديا للاجئين، مرورًا ببيت لحم وشوارع القدس القديمة وصولًا إلى حيفا على البحر المتوسط بحثًا عن «أحلام عابرة» تتحدى كل الصعاب فى حياة الفلسطينيين.
حواجز أمنية وجدران عازلة وطرق التفافية، وجنود إسرائيليون عدوانيون، الشك عنوانهم، والسلاح يقود تفكيرهم، الخوف ينعكس حقدًا فى قلوبهم، والثمن تحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم، فى المقابل عيون فلسطينية واثقة فى قضيتها، تبحث عن حقوق يعمل العدو على تصفيتها، فى شريط سينمائى يتجاوز الساعة ونصف الساعة بدقائق معدودات، يلخص فيه مشهراوى مأساة الفلسطينى فى الواقع وأحلامه برمزية الحمامة المفقودة، والصبى المتمسك بالبحث عنها واستعادتها.
«لا بد أن تعود إلى أصحابها الأصليين».. هكذا يقول أبوسلمان الحلاق للصبى عندما أخبره عن ضياع حمامته، فيغامر سامى بالذهاب إلى خاله من دون علم أمه، ظنًا منه أن بيت لحم هى موطن الحمامة الأصلى، غير عابئ بحواجز الاحتلال التى قطعت أواصر التلاحم بين الأرض السليبة الحافلة بالخير والنماء، وتحويل فلسطين التاريخية من «النهر إلى البحر» لسجن كبير، وقطعة من عذاب يومية لكل ما هو فلسطينى.
ينهمك سامى مع خاله كمال وابنته مريم «لاحظ الاسماء ودلالتها.. سمو وكمال وعذراء بتول» فى رحلة محفوفة بالمخاطر على مدى نهار وليلة بحثا عن الحمامة المفقودة، فإذا بهم يتعرفون أو «يعرفوننا» على واقع فلسطين اليوم، وما صنعه الاحتلال بأهلها الطيبيين محبى الحمام والزيتون رمزًا السلام.
لا يتفلسف رشيد مشهراوى فى فيلمه الذى اختاره مهرجان القاهرة السينمائى لافتتاح دورته الـ45، ويقدم عملًا بسيطًا على طريقة السهل الممتنع، فيعرض قضيته بمشاهد تدور أحداثها فى الضفة والقدس وحيفا ويقدم، بطريقة غير مباشرة، صورة عن الأسباب التى قادت إلى «طوفان الأقصى» من غزة يوم 7 أكتوبر 2023.
يتنقل سامى مع خاله وابنته، الحالمة بأن تصبح مراسلة صحفية، من بيت لحم إلى القدس القديمة، حيث تفوح «روائح وبهارات» المدينة المقدسة فى حوانيتها الصغيرة التى يهدد الاحتلال اصحابها بالطرد، قبل أن يصلوا إلى حيفا التى ينظر كمال إلى السفن المتوقفة فى مينائها وقت المساء، موجهًا كلامه إلى نفسه أولًا وإلى سامى ومريم ثانيًا بأن جدهما كان يعمل هنا قبل استيلاء الاحتلال على المدينة الساحلية الساحرة أيام النكبة عام 1948.
تنتهى الرحلة إلى حيفا بعودة الحالمين الثلاثة، عقب رحلتهم الاستكشافية لفلسطين ذاتها، إلى مخيم قلنديا من دون الحمامة التى لم يعثروا عليها «مؤقتًا»، لكنهم فى طريق الذهاب والعودة يتحدون كل العوائق التى يستهدف الاحتلال الإسرائيلى منها كسر إرادة الفلسطينيين وأحلامهم المشروعة فى الحصول على وطن مستقل آمن لا يعرف الطرق الالتفافية والجدران العازلة والتنكيل على الحواجز الأمنية.
«العمل السينمائى الفلسطينى ليس بالأمر السهل، فالظروف هناك تفرض قيودًا صعبة تجعل التصوير الروائى تحديًا كبيرًا»، هذا ما قاله مشهراوى مؤلف ومخرج «أحلام عابرة» عن فيلمه ليلة افتتاح المهرجان، ما يدفعنا إلى تقدير عمله، وشكر أبطاله: «عادل أبوعياش، وإميليا ماسو، وأشرف برهوم»، على جهودهم فى عرض قضيتنا المركزية بسلاح سينمائى يقاوم المحتل بأدوات فنية.
خيرًا فعل مهرجان القاهرة السينمائى ورئيسه الفنان الكبير حسين فهمى باختيار «أحلام عابرة» لافتتاح دورته الـ45 التى تأجلت عامًا كاملًا، بسبب العدوان الإسرائيلى على غزة، لإعلان رسالة تأييد وتضامن، بالكوفية الفلسطينية، تقول: «إن شوارع مصر وأزقتها فى كل المدن والقرى والنجوع، ستبقى حضن الأحلام الدافئ لكل فلسطينى حتى تحرير القدس «شاء من شاء وآبى من أبى» بتعبير الشهيد الرمز ياسر عرفات».