إنه صمت أخفتُ من صمت القبور. فيوميا تتحدث وسائل الإعلام الصهيونية عن اتصالات بين هذا المسئول الصهيونى وتلك الجهة الرسمية العربية، ويوميا تمتلئ وسائل التواصل الاجتماعى بصور الزائرين الرسميين وغير الرسميين من الشخصيات الصهيونية المستهزئة لهذا البلد العربى أو ذاك، حيث يزورون المواقع السياحية، ويجوبون الشوارع، ويدخلون دور العبادة، ويجلسون فى مقدّمة المؤتمرات، ويؤكدون استقبالهم والترحيب بهم من قبل هذا المسئول العربى أو ذاك النّجم الشعبى العربى، ويوميا تتحدّث الدوائر الأمريكية الرسمية أو وسائل إعلامها عن قبول بعض القادة العرب حضور اجتماع مشترك مع بعض القادة الصهاينة فى واشنطن من أجل ترتيب هذا الحلف العسكرى، أو تلك الاتفاقيات الاقتصادية، أو ذلك التنسيق الأمنى الاستخباراتى، مع المؤسسات الصهيونية.
يحدث كل ذلك أمام شعوب عربية تتساءل، باستغراب وغضب وحسرة، مدى صدقية الأخبار التى تسمعها والصور التى تراها، وتنتظر أن تسمع أو تقرأ تعليقا رسميا عربيا واحدا ينفى أو يؤكّد أو يستهجن. لكنّ تلك التساؤلات لا تُقابل إلا بصمت القبور وظلامها الدّاكن.
فى الواقع، ليس ذلك بمستغرب. ليس بمستغرب، بل ومنتظر، من قوى وشخصيات تفشل إبان حملها للمسئولية فشلا ذريعا فى بناء تنمية إنسانية شاملة، لكن إعلامها لا يتعب من الحديث عن الإنجازات المتوهمة، وتفرط فى استقلالها الوطنى والقومى، لكن إعلامها لا يخجل من اعتبار ذلك واقعية فى عالم عولمى لا مكان فيه لكلمات مثل الحرية أو الاستقلال أو حماية الاقتصاد الوطنى.
وبالطبع فإن وسائل الإعلام الرسمية تلك تغمض أعينها عن رؤية ما تفعله دولة مثل أمريكا، عرابة العولمة وقائدتها، من حماية لاقتصادها ودفاع عن استقلاليتها فى اتخاذ القرارات الكبرى، وذلك عندما تتعارض مصالحها الوطنية مع متطلبات العولمة التى أسستها ورعتها. إنه الكبرياء الوطنى والقومى الأمريكى الذى لا تعيه ولا تشعر به تلك الجهات الإعلامية التى لا تعرف إلا مدح المدافعين وذمّ المخالفين، حتى ولو كانوا من أشدّ المحبين لأوطانهم وشعوبهم، ومن القابضين على الجمر بصبر وتحمل. حتى تفهم اليأس والشعور بالمذلة والغضب الصامت عند الشعوب ما عادت تمارسه عقول وقلوب القائمين على ذلك الإعلام.
من هنا ترديد الناس فى مجالسهم الخاصة والعامة بأن السكوت هذا، والصمت المريب ذاك، هما علامة الرضى والمباركة والتمنى التى تقبع وراء الأقنعة السياسية التى تتميز بها مجتمعات بلاد العرب.
هل يستغرب، إذن، المسئولون العرب عندما يصل شباب وشابات بلدانهم إلى أقصى حالات التطرف فى شعاراتهم وتحركاتهم الصاخبة المليئة بألف مأساة ومأساة؟ فهؤلاء لا يرون برلمانات تناقش بحرية وصدق، أو تعترض بموقف رجولى غير انتهازى، وهم لا يستطيعون أن يكونوا صادقين مع النفس عبر وسائل التواصل الاجتماعى المتاحة لهم إلا ومصيرهم السجن والنفى والتهميش وفقدان الوظائف ورؤية دموع أهاليهم ومحبيهم، وهم لا يجدون، إلا فى ما ندر، إعلاما مستقلا نزيها يعبر عن آلامهم وأحلامهم وتطلعات مستقبلهم، وهم لا يسمعون من المسئولين إلا غمغمات التطمين والوعود المؤقتة المسكنة المخدرة.
عند ذاك، وكما الحال مع المريض النفسى المتوجع اليائس، يفضلون الموت على يد المليشيات والأمن المجنون والمندسين على العيش فى حالات اليأس والقنوط وقلة الحيلة والتسكع فى الشوارع والخجل من أهليهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم.
لا يستطيع الإنسان أن يفهم غياب الوعى الإنسانى المتعاطف المتفهم عند الكثير من المسئولين والأنظمة. نقول غياب الوعى، تجنبا للاتهام أو الشتم أو قراءة النيات. والصمت الذى تمارسه بعض الشخصيات وبعض قوى الحكم هو أقصى غياب ذلك الوعى.
فالتاريخ مليء بأنواع كثيرة من أنظمة حكم، حتى ولو لم تستند على شرعية تعاقدية ديموقراطية واضحة مقبولة، لكنها تميزت بعقل واعٍ متوازن وبحد أدنى من وخز ضمير إنسانى مستيقظ.
نحن لا نطلب الكثير عندما نطالب بأن تُحترم الشعوب، وعلى الأخص شبابها وشاباتها، على الأقل من خلال الإجابة عن تساؤلاتها، والصدق معها، وتجنُّب الغمغمة البليدة عند التخاطب معها. فالشعوب أذكى كثيرا مما تتصوّرون.