يمكن تفهم وتقبل أن يتحول كل المصريين فجأة إلى خبراء ومدربين فى كرة القدم، وأن يعتقدوا أنهم أكثر خبرة من مورينيو وجوارديولا وانشيلوتى وجوزيه وحسن شحاتة معا.
يمكن تفهم أن يتحول جميع المصريين إلى خبراء فى السياسة ايضا خصوصا بعد ثورتى ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، وأن يفتى أى منهم فى كل شىء من مشكلة البطالة، مرورا بتنظيم المرور ورصف الطرق، ونهاية بخطورة الحركات الإرهابية والتكفيرية.
لكن أن يتحول الجميع إلى خبراء عسكريين واستراتيجيين فهذا ما لا يتحمله العقل ولا مصلحة الوطن فى هذه الأوقات العصيبة.
على مضض تحملنا مأساة ما يسمون بـ "الخبراء الاستراتيجيين"، قلة منهم تفهم فى القضايا العسكرية، لكن غالبيتهم تبين أنهم "خبراء مضروبين"، يقرأون الصحف صباحا، ويبحثون فى الفيس بوك وتويتر وبعض المواقع الإلكترونية، مساء ثم يتفرغون ليلا للتنظير على الجميع فى الفضائيات.
عذرنا لبعض هؤلاء أنهم كانوا على الأقل جنودا فى الجيش، وبعضهم وصل إلى رتبة اللواء، يسمعون كلمة من هنا أو من هناك من بعض المسئولين أو أولئك الذين يملكون معلومات حقيقية.
وصار معروفا أن معظم هؤلاء الخبراء لم يكونوا يمثلون الجيش بأى حال من الأحوال، وأنهم فقط "يعرضون الخدمات"، وبعضهم تلقى تحذيرا بألا يتحدث باسم الجيش من قريب أو من بعيد، بعد أن تبين بوضوح أن ضررهم أكثر من نفعهم.
تفهمنا كل ذلك بسبب الأوضاع المتسارعة والملتبسة منذ ٢٥ يناير ٢٠١١ حتى الآن.
لكن ما لا يمكن تفهمه أو التسامح معه أن يتحول الجميع على الفيس بوك وتويتر وحتى بعض الصحف والفضائيات إلى خبراء عسكريين يدلون برأيهم فى امور غاية فى التخصص مثل الطائرة المقاتلة رافال أو الفرقاطة «فريم» أو صواريخ الاكسوزيت!!.
طوال الأسبوعين الماضيين ومنذ تم الإعلان عن قرب توصل مصر وفرنسا إلى اتفاق بشأن تزويدنا بصفقة الأسلحة، فقد تحول غالبية المصريين إلى خبراء فى شئون وتفاصيل الطائرة رافال.
ولأننا مجتمع يعيش حالة استقطاب وغالبية أفراده يدمنون «المعلومات الناقصة والسماعية»، فقد انقسم البلد إلى قسمين، الأول يرى الرافال أفضل طائرة فى الدنيا، وأننا بمجرد تسلمها سنقضى ونبيد كل أعدائنا من العدو الصهيونى الأصلى والرئيسى والكبير فى فلسطين المحتلة، إلى الإرهابيين الجدد عملاء الصهاينة فى سيناء وليبيا ومعظم المنطقة.
أما الفريق الثانى فقد نظر إلى الرافال باعتبارها طائرة «نص لبة» وأقرب إلى التوك توك، وأفتى هؤلاء بأن عدم تمكن فرنسا من بيعها لأى دولة حتى الآن هو دليل على قلة كفاءتها إضافة إلى ارتفاع سعرها الذى لم يذكره لنا أحد وقتها مقارنة بالمقاتلات الأخرى حتى نفهم الفرق.
بطبيعة الحال الفريقان مخطئان، ووسط هذه «الهيصة الافتائية الاستراتيجية» ضاعت وتاهت الأصوات العاقلة والمتخصصة القليلة التى تحدثت عن الطائرة وخصائصها فعلا.
نفس الأمر تكرر فى التعليق على الضربة الجوية ضد بعض قواعد داعش فى ليبيا، الكل يفتى ويحلل ويقترح وكأنه صار فجأة قائدا للقوات الجوية أو رئيس أركانها أو رئيس هيئة العمليات فيها.
وما زاد الطين بلة أن بعض وسائل الإعلام إضافة إلى الفيس بوك بدأت تزيد «درجة الإفتاء» فيما يتعلق بتحركات القوات المسلحة والاعتماد على مواقع غير دقيقة أو مشبوهة او شخصيات غامضة، والنتيجة أنها يمكن أن تقدم خدمات مجانية للعدو، أو على الأقل تثير البلبلة والارتباك بين المواطنين.
هؤلاء الخبراء الجدد فى العلوم العسكرية والاستراتيجية يقدمون افضل خدمة للعدو، وصاروا أسوأ أدوات التعذيب للمواطنين البسطاء.. نسألكم الرحمة.