من أجل أن لا نتيه فى المماحكات الكثيرة حول الأيديولوجية، دعنا نؤكد من البدء بأن الأيديولوجية التى تعنينا فى هذا المقام هى السياسية، وهى التى أولا تملك نقدا عقليا وموضوعيا للحالة التى يعيشها المجتمع، وثانيا لديها أهداف استراتيجية كبرى تريد تحقيقها، وثالثا تحدد بصورة واضحة الوسائل التى ستوصل المجتمع إلى تلك الأهداف.
وفى هذه الحالة ستوجد عدة أيديولوجيات سياسية، متنافسة سلميا وتأخذ بممارسة الأخذ والعطاء الديمقراطى المتسامح، والتى تملك مرجعيات قيمية أخلاقية وإنسانية تضبط الساحة السياسية وتضبط نشاطاتها.
نحن إذن لا نتكلم عن أيديولوجية استعلائية أو عرقية أو مدعية بامتلاكها تاريخا متخيلا مليئا بالكذب كما كان الحال مع النازية أو مع الصهيونية حاليا. ولا عن أيديولوجية تهتم بجانب سياسى محدود أو آنى كحركات الخضر مثلا، ولا عن أحلام وتمنيات غير مربوطة بإحكام بالواقع المعيشى وبحركات اجتماعية كبرى أو أحزاب سياسية مناضلة متواجدة فى كل مكان.
وأخيرا يجب الإصرار على أن تهيئ الأيديولوجيات السياسية العربية نفسها لمواجهة ما طرحته ثقافة وشعارات وممارسة الحداثة الأوروبية عبر القرون الثلاثة الماضية وادعت أنه يصلح لكل أمة ولكل زمن وأنه نهاية التاريخ، وما تطرحه الآن ثقافة وشعارات وممارسات ما بعد الحداثة من رفض نقدى سلبى لبعض ما طرحته الحداثة سابقا ومن محاولة للادعاء أيضا لاعتبار ما تطرحه صالحا لكل أمة ولكل زمان. وما لم تتحرر الأيديولوجيات السياسية العربية من هيمنة الآخرين ومن الانشغال العبثى بمشاكلهم وخلافاتهم، ولكن بالتفاعل الندى معهم، فإننا سندور فى حلقة أيديولوجية هامشية عربية، تماما كما فعل بعضنا فى السابق.
ضمن تلك المحددات وذلك الفهم لموضوع الأيديولوجية دعنا نرد على من يعتبر أن تذكيرنا الدائم لشابات ولشباب الأمة العربية بأهمية أن يكون نضالهم السياسى ضمن نظرة أيديولوجية قومية عروبية هو من قبيل الأوهام والأحلام.
فأية مراجعة للحركات القومية العربية عبر المائة سنة السابقة تظهر أنها طرحت نفسها كأيديولوجيات سياسية موضوعية واقعية تنطبق عليها كل متطلبات الأيديولوجية التى تعكس حاجات الأمة العربية فى العصر الحديث.
فهى أيديولوجيات درست واقع الأمة العربية التاريخى المتخلف والملىء بإشكالات كبرى درسا تحليليا نقديا جزئيا، كما تفعل كل الأيديولوجيات.
وعلى ضوء تلك الدراسات وصلت إلى قناعة بأن أكبر إشكاليات الواقع العربى هى فى تجزئة الأمة، وفى وقوع جميعها تحت أشكال من هيمنة واستباحة القوى الاستعمارية والصهيونية، وفى تخلفها السياسى والاقتصادى والاجتماعى والعلمى – التكنولوجى عن مقاييس العصر الحديث.
من هنا وضعت كل الأيديولوجيات القومية العربية أهدافها الكبرى كرد على ذلك الواقع. فهدف الوحدة العربية هو رد على واقع ومصائب التجزئة، وهدف الحرية هو رد على تواجد الاستعمار فى بلاد العرب وعلى هيمنة الاستبداد الداخلى التاريخى، والاشتراكية (أو العدالة الاجتماعية) هو رد على ظاهرتى الإقطاع والرأسمالية الجشعة والفقر المدقع والامتيازات الاجتماعية غير الشرعية.
أما وسيلة الوصول إلى تلك الأهداف فكل الأيديولوجيات القومية اقترحت النضال الشعبى الثورى.
تلك كانت الصورة، بصورة عامة، بدءا من أربعينيات القرن الماضى وحتى نهايته. لكن فشل تحقق أى من الأهداف وتراجع قوى كل الأحزاب القومية طرح ضرورة المراجعة وإعادة النظر. من هنا الجهد الكبير الذى بذله مركز دراسات الوحدة العربية عندما جيش ثلاثمائة من مفكرى الأمة لوضع مشروع أيديولوجى قومى عروبى بأفكار وأهداف جديدة تحت مسمى «المشروع النهضوى العربى» وبأهدافه الستة: الوحدة العربية، الاستقلال القومى والوطنى، الديمقراطية، التنمية المستدامة، العدالة الاجتماعية، والتجديد الحضارى. وهى مكونات تهدف إلى سد النواقص السابقة. وهذا ما سنحاول إبرازه فى مقال قادم.