فى طريقه إلى الحج رأى «عبدالله بن المبارك» امرأة تلتقط هرة «أى قطة» وتذبحها فلما سألها عن حالها أخبرته أنها تطعم أولادها الجياع الذين لا ينفق عليهم أحد.. فأعطاها ما كان معه من مال وطعام.. ولم يترك معه إلا ما يكفيه للرجوع إلى بلده ولم يحج فى ذلك العام.
فلما رجع الناس من الحج جاءوا يهنئونه بأداء الفريضة فقال لهم: إنه لم يتيسر لى الحج قالوا: كيف وقد رأيناك فى عرفات وعند الكعبة وفى منى وعند المسعى.. بل والله ما صعدنا جبلا ولا نزلنا سهلا إلا رأيناك معنا.
وقد فسر بعض العلماء ما حدث مع عبدالله بن المبارك تفسيرا جميلا قد يتفق معه البعض أو يختلف، ولكنه قد يكون الأقرب للقبول فقد قالوا: هذا ملك أرسل بصورته فحج عنه.. وهذا مصداق قول النبى، صلى الله عليه وسلم، «من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه».
لقد حججت مع أمى رحمها الله منذ عشر سنوات.. وبعد عودتى حرصت على أن أسجل كل مشاعرى وفيوضات نفسى وذكرياتى مع أمى ومع كل بقعه طاهرة من بقاع الحرمين أو عرفات أو منى وغيرها.
ولولا أننى سجلت هذه الذكريات ومعها بعض الرؤى الفكرية والفقهية التى عشت فيها وقتها ويندر لهذه المشاعر الفياضة أن تتكرر فى غير هذه الأماكن فالأحوال والمقامات تزول كما يزول السحاب وكتابتها تجعل الإنسان يستعيد لحظاتها الرائعة المليئة بصدق اللجوء إلى الله تعالى والتجرد عن الدنيا.. ولولا ذلك ما استعدت هذه اللحظات كل حين.
ولذلك رغبت أن يسجل كل العلماء والدعاة والزهاد والعباد والأدباء والمفكرين والساسة الكبار رحلاتهم إلى الحج.. فهذه الرحلات بالذات تعد روضة للمحبين للحبيب الأعظم سبحانه ولنبيه الكريم محمد «صلى الله عليه وسلم» ولإمام التوحيد إبراهيم عليه السلام وأسرته الفاضلة التى تعد معظم مناسك الحج تذكيرا بهم وبإيمانهم لله واستسلامهم وانقيادهم لمولاهم الحق وصبرهم لأمر الله ورضاهم عن الله.
ولذلك كتب الأديب والسياسى اللبنانى الشهير / شكيب أرسلان كتابا عن رحلته إلى الحج سماه «الارتسامات اللطاف إلى أقدس مطاف».. ويقع فى 300 صفحة وقد علق عليه تلميذه / محمد رشيد رضا صاحب المنار.. وقد كتب «أرسلان» رحلته إلى الحج بأسلوب أدبى بديع.. وقد ذهب إلى الحج وقتها من سويسرا حيث كان مطرودا من بلاد العرب نظرا لمقاومته الاحتلال الإنجليزى والفرنسى.
أما الكاتب الكبير محمد حسين هيكل فكتب عن رحلته للحج فى كتاب شيق سماه «فى منزل الوحى».. وكما أن حياة هيكل بدأها كقصاص وأنهاها كذلك فقد كتب رحلته للحج بأسلوب قصصى بديع أشبه بطريقته فى سرده لسيرة النبى «صلى الله عليه وسلم».
أما العبقرى العظيم والمحب للعباقرة عباس العقاد فلم يصف رحلته للحج فى كتاب مستقل ولكنه وصفها فى عدة مقالات متناثرة وكتب مختلفة.
ويعد العقاد أفضل من وصف رحلته للحج فى عصره وزمانه.. وقد ترك سيارة المرافقين له ودخل بنفسه «غار حراء» حينما أشار السائق إليه.. وصعد الجبل بنفسه وقال عن ذلك «لابد أن أصعد بنفسى الجبل وأجلس فى المكان ذاته الذى اجتمع فيه أمين الوحى مع الصادق الأمين حينما قال له: «اقرأ».
وقد تساءل العقاد فى مذكراته قائلا: كيف كان النبى الكريم يخاطر بنفسه فى الصعود إلى هذا المكان الموحش الوعر الذى كانت تسكنه السباع والوحوش؟.. أم أنها العناية الإلهية التى اختارت له ذلك المكان المظلم لكى تشع منه أنوار الوحى وتنبعث منه هدايات السماء وتنطلق منه أعظم حضارة شهدتها البشرية جمعاء ».
ولم يكتف العقاد بذلك بل ذهب إلى غار ثور.. وإلى بيت أبى بكر الصديق وقد عبر عن مشاعره الجياشة فى هذا البيت قائلا: «لما دخلت الدار شعرت كأننى أحاوره فيما كان من شأن الدعوة فى مهدها».
وقد استفاض العقاد فى شرح رحلته للحج بالتفصيل حتى إنه تحدث بإسهاب عن لقائه مع الملك عبدالعزيز آل سعود العاهل المؤسس للسعودية.. وعن الحديث المطول الذى دار بينهما.
أما د/ طه حسين.. فقد كتب أيضا عن رحلته للحج.. وقد كان الشيخ الشعراوى غاية فى الفطنة والذكاء حينما أصر على استقباله استقبالا رائعا وحافلا فى السعودية.. وكان وقتها أستاذا للشريعة ورئيسا لبعثة الأزهر الرسمية.. فنحى نفسه والبعثة عن العداء فى أيام الصفاء وألقى قصيدة ترحب بطه حسين.
وقد تعجب د/ طه حسين من حفاوة الاستقبال وتأثر به حتى قال: معذرة عن هؤلاء المواطنين الذين أخطأوا موطن التكريم ووجهوه إلى غير من كان ينبغى أن يوجه إليه وأقول لكم: دعوا أخاكم هذا الضعيف وما قدم إليكم من خير قليل واصنعوا خيرا مما صنع.. وأريحوه من إطالة الثناء لأنها تخجله وتشعره أنه يسمع ما ليس له الحق فيه.. وقد كان الملك سعود والأمراء والأعيان والأدباء حضورا لهذه الاحتفالية.
وقد أثرت رحلة الحج فى نفس د/ طه حسين تأثيرا رائعا عبر عنه بقوله: لقد تركت زيارتى للحجاز آثارا قوية رائعة فى نفسى لا يمكن تصورها وحسبك أنها الموطن الذى أشرق منه نور الإسلام.
وبعد زيارته لمدينة الرسول «صلى الله عليه وسلم» حاول الصحفيون أن يتحدث إليهم د/ طه حسين ولكنه أمسك عن القول واكتفى بكلماته: ما كان لى أن أتكلم بمدينة النبى «صلى الله عليه وسلم» وما كان لى أن أرفع صوتى والله يقول: «لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى».. وحينما وصل الحديبية أخذ حفنة من التراب وقبلها.. وعندما سئل عن ذلك قال: لعل الرسول وطئ هنا.. وحينما سأله صحفى: ما شعورك حينما لبست ملابس الإحرام وبماذا دعوت فى المسجد الحرام؟ قال: أفضل ترك الإجابة لما بين الله وبينى من حساب وإنه لعسير وأرجو أن يجعل الله من عسره يسرا.. ولما سُئل عن مؤلفاته قال: لا أحب منها شيئا.
هناك فى الحرمين وعرفات ومنى والمسعى تصفو النفوس وترق القلوب وتنزل القلوب من كبريائها وعظمتها وجاهها وتتواضع لله عزوجل وترتفع إلى سماء العبودية وظلها الظليل.. أسأل الله ألا يحرمنا من بركات ورحمات وفيوضات مواسم الطاعات والقربات وخاصة الحج والعمرة.