اليوم هو عيد الحب.. الڤالانتاين، تحولت الدنيا حولنا بقدرة قادر إلى كتلة من اللهب الأحمر كأن ساحراً أمسك بفرشاة ذات لون واحد ومر بها على الناس والمحلات وأعمدة النور وحتى السيارات، نعم حتى السيارات فهذه السيارة المعطلة من سنين والتي يحجز لها صاحبها مكانًا في الطريق دون داع دبت فيها الروح فجأة فإذا بشريط أحمر يلتف حولها متوسطاً ذرات الغبار المتراكمة. على وسائل التواصل الاجتماعي تدور معركة كلامية حامية الوطيس بين من يرى أن الاحتفال بالحب جاءنا من الخارج ويسأل لماذا لا تكون كل أيامنا عبارة عن حب في حب، ومن يرى أنه لا غضاضة في الاحتفال بالحب مع المحتفلين به حول العالم فإذا كان للعمال عيد وللمرأة والطفل عيد فلماذا لا يكون للحب عيد؟ بل هل يعقل أن يكون هناك احتفال بالرعب (الهالوين) بينما لا يجد الحب من يحتفل به؟! شخصياً لست ضد الاحتفال بعيد للحب بشرط أن يكون تطوراً طبيعياً للمشاعر، أما أن تجد مشاعر باردة طول العام ولا تلتهب إلا في الڤالانتاين فهذا يذكرني بالمشهد المعروف في السينما المصرية عندما ينشب عراك بين رواد المقهى فما أن يمر بهم عسكري الدورية حتى يجلسوا في أماكنهم بسلام ثم يستأنفوا العراك بعد اختفاء العسكري، ليس مقبولاً أن يلعب الڤالانتاين دور عسكري الدورية. سألتني معاونتي اللطيفة: حاتروحي فين في "الڤالانتايم" يا داكتورة؟ أجبتها بابتسامة: ولا حتة.. وأنتِ؟ قالت: جنينة الحيوانات! تحولت بسمتي إلى قهقهة، بارك الله في حديقة الحيوان هذه التي تصلح للاحتفال بكل المناسبات من أول شم النسيم وحتى " الڤالانتايم " مروراً "بالكرستم" (الكريسماس)! ومن يدري فلعل حيوانات الحديقة ينوبها من الحب جانب على سبيل الاستثناء .
***
وقفتُ في الڤراندة أشم هواء الصباح، لطيف اسم الڤراندة الذي اختفي من قاموسنا ومعه كلمات أخرى كثيرة، أتذكر: الحلو في الڤراندة شاور لي وبص لي والقلب في الزمن ده بسرعة بيتملي.. الحلو في الڤراندة شاور لي شاور لي وبص لي، دفقة من البهجة غير المبررة تندفع في عروقي. يمر من أمامي صبي من جامعي القمامة يحمل على ظهره قفة نصف ممتلئة، أعرف جيداً هذا الصبي، وكثيراً ما رأيته وهو في طريقه ليقذف بحِمل قفته في صندوق القمامة الكبير على الناصية، وبينما هو يسير فإنه يقضم بقايا ساندوتش أو يلتهم ثمرة فاكهة معطوبة أو يشرب العصير من علبة مفتوحة.. وفق قانون المنفعة الحدية فإن تلك الفضلات تحقق للصبي منفعة تامة وإشباعًا لا مزيد عليه. في بداية تعرفي عليه انشغلت به.. بظروفه.. بأسرته.. بصباه.. بمسكنه، ثم اعتدته ولم أعد أسأل، وهكذا هي الأيام نتأقلم معها على الأشياء حلوها ومُرها. أما اليوم فقد كان لدى الصبي ما يستحق الاهتمام به والمتابعة، ربط الصبي حول ذراعه بالونة حمراء على شكل قلب وراح يوسّع خطاه بمنتهى الجدية في اتجاه صندوق القمامة على ناصية الشارع. كانت البالونة نصف ممتلئة فإذا بالريح تصفعها ذات اليمين وذات اليسار وصاحبنا غير عابئ بعبث الريح . يااااااااااااا سمير ناديته بأعلى صوتي فوقف مكانه وراح يتلفت من حوله بحثاً عن مصدر الصوت، هنا.. هنا فوق، رفع بصره إلى أعلى ونظر إليّ مستفسراً، ظن المسكين على الأرجح أنني أريد أن ألقي مزيداً من الفضلات في قفته فلم أتركه يفكر طويلاً، لوحت له مبتسمة فرد التحية ولوّح لي فيما البالونة الحمراء العالقة بذراعه تتثني برفق شديد مع حركة يده. صنع سمير يومي كما يقولون .
***
ترى هل يعرف الصبي أن اليوم هو عيد الڤالانتاين وأن البالونة القلب التي يحملها هي من مظاهر الاحتفال بهذا العيد؟ لا أستبعد أنه يعرف فمعاونتي تعرف وكثيرون غيرها يعرفون، عموماً هذا ليس هو السؤال المهم، السؤال المهم هو ما معني الحب الذي يحتفل به الناس بالنسبة لهذا الصبي؟ هل هو قلوب ودببة وورود وشرائط حمراء ثم لا شيء يتغير بعد ذلك؟ حتى لو كان هذا هو معنى الحب فلماذا لم يقل أحد لسمير أنه يحبه بهذه الطريقة.. لماذا لم يقدم له أحد عيدية حمراء في هذا العيد كما يعطونه العيدية في المواسم والأعياد؟ هذا العيد أمره غريب والله، إن معناه أن من يتبادلون فيه الهدايا يحبون بعضهم فقط ولا يحبون باقي خلق الله ويا له من تمييز صريح.. ماذا فعلتُ أنا سمير لهذا الأستاذ أو لهذه المدام حتى يكرهاني؟ ربما لأني أزوغ أحياناً من جمع القمامة؟ محتمل جداً لكن هذا نادراً ما يحدث كألا أدخل إحدى العمارات من باب الزهق أو أدخلها لكن لا أتوجه إلا للطوابق الثلاثة الأولى لأن الطوابق العليا تقطع النَفَس، عموماً هذا التزويغ يبرر العتاب لكنه لا يبرر أبداً الكره.
***
رحتُ أراقب سمير وهو يبعد ويبعد وأسئلتي عن علاقته بالڤالانتاين ودلالة البالونة القلب بالنسبة له محبوسة في رأسي لا تبارحه، ثم قرر الصبي دون تعمد أن يريح هواجسي. قبل أن ينعطف سمير يميناً إلى الناصية حيث صندوق القمامة الكبير، مد يده إلى إحدى الورود الحمراء المدلاة من ڤراندة الطابق الأرضي بالڤيلا الوحيدة التي بقيت صامدة في الشارع، تلفت حوله في حذر لا يدري أن البالونة في ذراعه تفضحه، قطف الوردة بسرعة وألقاها في قفته ثم اختفي. ثبتت الرؤية إذن وفهمنا أن الصبي يعرف أن اليوم هو عيد الڤالانتاين الذي فيه يتبادل المحبون الورود والبالونات، لكن لمن سيهدي هذا الخبيث وردته الحمراء هذه؟ وهل سيجود أيضاً بالبالونة القلب في ذراعه أم سيقسم غنيمته: الوردة والبالونة بينه وبين من يحب؟ سره معه وللأطفال أيضاً أسرارهم .