نشرت صحيفة ذا نيويورك تايمز مقالا بتاريخ 15 فبراير للكاتب بريت ستيفينز يقول فيه إن من يطمحون إلى نظام جديد ما بعد فترة السلام الأمريكى لن يجدوا سلاما، ذاكرا الأسباب التى ستؤدى إلى انتشار الاضطرابات والمآسى حول العالم.. نعرض من المقال ما يلى.لا يدرى أحد، حتى كتابة هذه السطور، ما الذى سيقرر فلاديمير بوتين فعله بقواته على طول حدود أوكرانيا؟. إذا تراجع بوتين عن موقفه، ربما بفضل بعض الدبلوماسية التى تحفظ ماء الوجه، فإن إدارة بايدن تستحق التقدير لإدارتها لهذه الأزمة ببراعة: نظمت سياساتها مع الأوروبيين وخاصة ألمانيا، أحبطت العمليات السرية الروسية ومحاولات تسريب التفاصيل لوسائل الإعلام، توسيع الوجود العسكرى الأمريكى على الخطوط الأمامية لدول الناتو، البحث عن طرق لتزويد أوروبا بالغاز الطبيعى المسال، رفض التفاوض على حساب أوكرانيا، التهديد بفرض عقوبات رادعة على موسكو. إذا لم يتراجع بوتين، فستظل هذه هى الخطوات الصحيحة والضرورية.
يجب أن تكون الأزمة بمثابة تدريب على ما يسمى بعالم ما بعد السلام الأمريكى. فى نسخة خيالية من ذلك العالم ــ عالم لا يتم فيه استدعاء القوة الأمريكية باستمرار لمعالجة أزمات خارج أراضيها أو طمأنة الحلفاء المتوترين ــ تقايض الولايات المتحدة أعباء كونها قوة عظمى بأن تصبح دولة عادية ذات طموحات فى متناول اليد، ويتقلص الجيش إلى حجم يناسب الدفاع الوطنى، فالأعداد الكبيرة لن تكون مطلوبة إذا تخلت أمريكا عن دور الشرطى العالمى، ويستغنى الحلفاء عن الضمانات الأمنية الأمريكية ويبدأون فى إنفاق المزيد على الدفاع عن أنفسهم. فى هذا العالم تقل غطرسة السياسة الخارجية الأمريكية وتميل نحو التعاون، تفقد الوهم بأنها، أو يجب عليها، حل مشاكل الآخرين، وتتحرر من تقديم التضحيات والتنازلات التى تصاحب هذا الوهم. تتحول السياسات الأمريكية الاقتصادية للتكيف مع عالم أقل عولمة. تعيد الاستثمار فى العمال والمصانع الأمريكية بدلا من الاعتماد على الصين فى التصنيع والعمالة منخفضى التكلفة، وتصبح مستقلة فى كل شيء من الطاقة إلى الرقائق الإلكترونية الدقيقة.
قد تبدو هذه الرؤية مغرية، إلا أنها خاطئة. النظام العالمى لا يتشكل تلقائيا. فى غياب السلم الأمريكى، هل ستكون الأمم المتحدة قادرة على فرض قواعد الطريق، مثل حرية الملاحة فى بحر الصين الجنوبى، والتى يمر منها ما يصل إلى ثلث التجارة العالمية؟ وماذا عن التحالفات الإقليمية، مثل الاتحاد الأوروبى أو رابطة دول جنوب شرق آسيا؟.
سيكون لهذا تأثيرات أخرى غير مباشرة؛ مثل هذا السلوك المفترس الذى نشهده على حدود أوكرانيا ومضيق تايوان. هذا السلوك الذى لا يشبع، فروسيا التى تأخذ المزيد من أوكرانيا أو الصين التى تستولى على تايوان لن يقفا عن هذا الحد، بل وستزداد قوتهما وسيسعان للحصول على المزيد.
لن يكون هناك سلام فى عالم ما بعد السلام الأمريكى. الولايات المتحدة اليوم تنفق مبالغ قليلة على الدفاع (3.5% من الناتج المحلى الإجمالي) مقارنة بعهد كارتر (5% من الناتج المحلى الإجمالي). لكن يجب أن يعود الإنفاق العسكرى مرة أخرى إلى مستويات فترة الحرب الباردة عندما كانت المصالح الأمريكية الأساسية مهددة.
فى النسخة الخيالية من هذا العالم، ستجد أمريكا نفسها فى حيرة من أمرها وخائفة من سلوك حلفائها التقليديين. ستركز الدول على مصالحها الخاصة، وتستخدم القوة لتحقيقها، غير آبهة لرغبات أمريكا أو المعايير الدولية. غياب الحماية التى تقدمها أمريكا سيعنى نشر اليابان لترسانتها النووية الضخمة لمواجهة الصين، سيعنى أن تصبح تركيا والسعودية نوويتين خاصة لو امتلكت إيران القنبلة. إذا امتلك كل إقليم مشتعل فى الأساس أكثر من قوة نووية، لن نشهد إلا المآسى والحوادث.
فى هذا العالم ستتوقف عملية الازدهار. فى عالم ما بعد السلام الأمريكى سيتعين علينا ببساطة الاعتماد على تدفقات التجارة التى ستقع تحت رحمة القوى المعادية والأحداث غير المتوقعة. والأخطر من ذلك هو أن عالم ما بعد السلام الأمريكى سيعنى عالما تذبل فيه الديمقراطية الليبرالية. هذا يحدث بالفعل، من بودابست إلى أنقرة إلى مكسيكو سيتى.
غالبًا ما تعجب الجماهير الديمقراطية بالديكتاتوريات الكاريزمية. هذا هو السبب الذى جعل جزءا من اليسار التقدمى معجبًا بنظام كاسترو فى كوبا، تمامًا كما كان اليمين المتطرف الجديد مفتونًا بهدوء ببوتين.
مهما حدث بعد ذلك فى أوكرانيا فلن يهم بقدر أهمية الدروس التى نستخلصها من الأزمة. الاعتقاد أن أمريكا التى تدير ظهرها إلى العالم ستترك فى سلام هو اعتقاد خاطئ.
ترجمة وتحرير: ابتهال أحمد عبدالغنىالنص الأصلى