كان القرن التاسع عشر ملىء بالأحداث السياسية والاجتماعية التى غيرت وجه أوروبا والعالم كله، بدأت أوروبا تجنى ثمار ثورتها الصناعية تدريجيا فى شكل تغيرات اجتماعية كبيرة، فبدأت ظاهرة التحضر معها تغير شكل المجتمع من الأسر الكبيرة إلى الأسر الصغيرة، من العيش فى الريف إلى الزحف التدريجى إلى المدن، من الهيراركية إلى التقسيمات الأفقية، من مجتمعات الرعى والزراعة والصيد، إلى مجتمعات المصانع والشركات والمؤسسات الضخمة، من الملكيات المطلقة إلى الملكيات الدستورية.
أحد نتائج الثورة الصناعية كانت أيضا الثورات السياسية فى الأمريكتين وأوروبا، حيث بدأت بوادر الديموقراطية الليبرالية فى الظهور التدريجى وأصبح لعامة الناس صوت مسموع فى بلاط الملكيات والقصور الرئاسية، وهنا كان إعادة الاعتبار للعلوم الاجتماعية ومن ضمنها علم الاجتماع. يصف العالم «كينيث تومسون» القرن التاسع عشر بثورة التنظير فى العلوم الاجتماعية وخاصة علم الاجتماع الذى بدأ فى دراسة مكثفة للتأثيرات الاجتماعية والسياسية للثورتين الصناعية والسياسية على المجتمعات الغربية، ولعل أحد أهم هذه التأثيرات كانت العلاقة المشتبكة بين العلمانية والدين.
يرفض تومسون القراءة السطحية لتاريخ أوروبا فى القرن التاسع عشر باعتباره تاريخا علمانيا بحتا، ويورد فى بحثه «الدين، القيم، والأيديولوجية» فى الصفحات من ٣٩٦ إلى ٤٢٢ من كتاب «الحداثة» السابق الإشارة إليه فى المقالة قبل الماضية، دراسة موثقة لقلق علماء الاجتماع من طغيان المادة على الروابط المجتمعية ومن ثم البحث عن رصد محاولات المقاومة من المجتمعات لتغول العلمانية على الروابط الإنسانية الجمعية للمجتمعات الغربية الحديثة ومن ضمنها الدين.
***
تمكن علماء الاجتماع فى مرحلة ما بعد التنوير فى أوروبا من التوصل إلى ثلاث معضلات واضحة لعملية علمنة أوروبا والمجتمع الغربى فى القرن التاسع عشر. تمثلت المعضلة الأولى فى أن الحداثة الأوروبية ربطت نظم الحكم بالعلمانية وارتبطت الأخيرة باستعمار دول العالم وتقسيمها إلى ملكيات خاصة لأوروبا ومن ثم إلى استغلال موارد المستعمرات وارتكاب المذابح بحق سكانها. فيما تمثلت المعضلة الثانية للحداثة الأوروبية باستغلال العمال باعتبارهم مجرد عنصر من عناصر الإنتاج وبالتالى حولتهم إلى المعادلة الإقطاعية الاستغلالية القديمة ولكن فى ثوب حداثى جديد مما هدد قيم الديموقراطية الليبرالية التى كانت تنتشر بالتوازى، بينما جاءت المعضلة الثالثة والأخيرة فى أن طغيان الفردانية الأنانية على الجمعية والتى ارتبطت أيضا بطغيان المادة على الأخلاق والروحانيات فى عصر الحداثة مما هدد قيم الحضارة الأوروبية المستندة إلى المشترك المسيحى ومن ثم أفرز مقاومات مجتمعية وتنظيرات أكاديمية لخطورة هذا الطغيان الحداثى على الغرب كله.
كتابات عديدة يمكن رصدها فى هذا الإطار، «كارل ماركس» ــ مثلا ــ رأى أن الحداثة الأوروبية المستندة إلى مراكمة الثورات والرأسمالية لن تؤدى إلى اختفاء الدين، بل وعلى العكس من ذلك ستعطى قبلة الحياة للدين باعتباره وسيلة للمقاومة والتعبئة ولن يكون هناك أى تغير فى هذه المعادلة الرأسمالية ما لم يكن هناك ثورة أكثر راديكالية ــ نلحظ هنا أن ماركس كان يرى أن الثورة الفرنسية محافظة ــ تغير من العلاقات المجتمعية إلى مزيد من العدل والمساواة والوعى المتمرد.
كذلك فقد حذر «دى توكفيل» من أن ضغوط العلمانية للفصل بين المجالين العام والخاص سوف تقوم بمحو وصائل المجتمعات الأوروبية وتسحق هويتها، وبنفس المنوال فقد رصد «دوركايم» ارتفاع معدلات الانتحار فى القرن التاسع عشر بين المجتمعات البروتستانتية مقارنة بالمجتمعات الكاثوليكية واليهودية مرجعا ذلك إلى التطرف فى الاتجاه إلى الفردانية فى بعض الاتجاهات البروتستانتية الراديكالية مقارنة بقيم الجماعة والمساندة فى الكاثوليكية واليهودية!
ولعل الإسهام المهم فى هذا الإطار جاء من العالم الأشهر فى مجتمعاتنا العربية «ماكس فيبر» والذى رأى أن قيم الديموقراطية الليبرالية مرتبطة بقيم اليهودية والمسيحية وأن الرأسمالية العلمانية فى أوروبا وضغوطها المادية ستزيد من عدد ضحايا المجموعات الأقل حظا (الأقليات) وأن الأخيرين لن يجدوا بدا عن إحياء التراث الدينى كرابط مشترك ووسيلة للمقاومة فى عالم الرأسمالية الذى يفتقد القلب ويركز فقط على العقل وهو ما سيعوضه إحياء الأديان كملاجئ للمستضعفين!
***
فى هذا السياق، قدم «براين ويلسون» فى كتابه «الدين فى سياق علم الاجتماع» والصادر عن دار نشر أوكسفورد فى عام ١٩٨٢ الطرق المختلفة التى تمكن فيها الدين من مقاومة المد العلمانى والتأقلم مع النسخة الأحدث من المجتمعات المادية المعاصرة حيث فرق بين طرق مختلفة من ردود فعل الدين ــ المسيحية تحديداــ خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين للتكيف مع هذه المستجدات على النحو التالى:
أولا: رد الفعل التحويلى conversionist مثل ردود فعل الفكر المسيحى الإنجيلى والذى قدم نظرة نقدية للعالم الرأسمالى الفاسد المسيطر عليه بواسطة المادة ساعيا إلى تغيره عن طريق تغير الأفراد أولا. هذا الفكر عمل بنفس طريق العلمانية أى إن استراتيجيته كانت، إن كان العالم الرأسمالى تغلغل عن طريق التركز على الفردانية، فإن طريقتنا ستركز أيضا على الفرد من أجل تغيره (تحويله) إلى الجماعة الدينية مرة أخرى، ومن أبرز الأمثلة على هذا الاتجاه كنائس جيش الإنقاذ والمتواجدة والمنتشرة حتى هذه اللحظة فى أمريكا الشمالية.
ثانيا: رد الفعل الثورى والذى تمثل فى الفكر المسيحى الذى حاول أن يتمرد على السياق الاجتماعى القائم وتقديم رؤية لسياق اجتماعى جديد أكثر مساواة، مثل جماعات «شهود يهوه» أو «الملكيين الخمس» فى إنجلترا والذين ظهروا بعد الحرب الأهلية الإنجليزية فى القرن السابع عشر ــ بعد صلح ويستفليا بسنوات قليلة ــ محاولين تقديم رؤية مغايرة لتراتبية المجتمع الإنجليزى ولاحقا للعالم كله.
ثالثا: رد الفعل الانعزالى (الانطوائى) والذى لم يبحث عن تغير العالم، ولكن بالعكس عن الهروب منه والبحث عن عزلة اختيارية من أجل تنقية الروح الجماعية للمؤمنين بالسماء، وتمثل ذلك فى الجماعات المقدسة التى انتمت للكنيسة المنهاجية Methodism تحديدا فى إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية.
رابعا: رد الفعل المناور manipulationist والذى تمثل فى محاولات بعض الكنائس تبنى الفكر العلمى وتقديمه بأسلوب يتناسب مع المجتمع الرأسمالى لاكتساب ثقته أولا ثم محاولة تغيره لاحقا. سعى هذا الفكر ــ مثله مثل الفكر التحويلى ــ على استخدام نفس أساليب العلمانية الرأسمالية ولكن هذه المرة بادعاء تبنى المادية والعلمية حتى يقنع أفراد المجتمع بانسجام الفكر الدينى مع المادى الرأسمالى ومن ثم الانضمام إليه ثم تحويلهم لاحقا.
خامسا: رد الفعل الإعجازى thaumaturgical والذى حاول التقرب من أفراد المجتمع عن طريق إقناعهم بمعجزات الفكر المسيحى والكنيسة وادعاء التواصل المباشر مع الإله أو مع الأرواح والعالم غير المنظور، والنسخة الأشهر من هذا الفكر فى القرن التاسع عشر كانت من بعض الحركات الدينية التى انبثقت عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
سادسا: رد الفعل الإصلاحى والذى سعى إلى إصلاح المجتمع المادى العلمانى عن طريق نقد الدين نفسه وتقديم رؤية مغايرة لطقوسه وتراتبيته. ومن أهم أمثال هذا الاتجاه هو كنائس الأصدقاء Quakers فى إنجلترا والولايات المتحدة حيث يقدم رجل الدين نفسه إلى الحضور باعتباره صديقا ودون طقوس كهنوتية كتلك المعتمدة فى الكنيستين الأرثوذكسية الشرقية والكاثوليكية الغربية.
سابعا: رد الفعل اليوتوبى والذى سعى إلى الهروب من العالم الرأسمالى المادى الفاسد نحو إنشاء مجتمع مسيحى فاضل على السيرة الأولى للمسيح، حيث النقاء والمساواة والروحانية عن طريق إعادة إنتاج المجتمعات الأولى للمسيحية.
يخلص ويلسون فى كتابه القيم أن المسيحية خاصة والدين عامة ظل جزءا لا يتجزأ من تاريخ الحداثة الأوروبية وأن ردود الفعل سالف الذكر إليها هى التى حفظت التوازن داخل التجربة الحداثية الأوروبية، فمن ناحية سحبت الحق الحصرى من الكنائس التقليدية فى السيطرة على الفكر العام وعلى بلاط السلطة، ولكنها من ناحية أخرى قاومت المادية الفردانية الأنانية عن طريق إعادة الاعتبار للروحانيات معضدة الروابط الثقافية للمجتمعات الأوروبية لتحميها من التفكك.
لكن يرى «واليز وبروس» فى كتابهما «النظرية الاجتماعية: الدين والفعل الجمعى» والصادر عام ١٩٨٦ عن دار نشر جامعة كوين أن قدرة الدين (تحديدا البروتستانتية) على التغلغل فى التجربة الحداثية الغربية فى القرنين التاسع عشر والعشرين توقفت على ثقافة المجتمعات المحلية والظروف الاقتصادية والثقافية والسياسية لها، فمثلا فى المجتمعات المحافظة فقد كانت لردود الفعل هذه عظيم الأثر على السياسة (مثل حالة إيرلندا الشمالية)، بينما كانت أقل تغلغلا فى حالة مجتمعات المهاجرين التعددية مثل كندا وأستراليا ونيوزيلندا، وإن بقى الدين قادرا على التعبئة فى الكثير من الأحداث الاجتماعية والسياسية فى هذه الدول.
ألا يصل رد الفعل المسيحى بتنويعاته المذكورة أعلاه فى مقاومة الحداثة المادية الرأسمالية إلى حد التطابق أحيانا مع بعض الاتجاهات الإسلامية فى القرن العشرين كرد فعل على الحداثة؟ ماذا يعنى ذلك؟ أحاول سرد تجربة الحداثة والدين فى الغرب والعالم خلال القرن العشرين فى المقالة القادمة.