تعتاد أن تسمع الكثير من الإطراء عند السؤال المتكرر لمعرفة من أى بلد أنت.. تعتاده حتى تصاب بدوخان الغرور أحيانا. إن تلك القدرة الإلهية قد منت عليك بأن تولد فى هذا البلد تحديدا بدلا ربما من دول عديدة وفى الكثير من الأحيان قريبة جدا. يوصف أهلها بالكثير من الغرور الذى صاحب الثروة أو الطفرة أو الكارثة النفطية كل يسميها كما يرى تداعياتها خاصة الأخيرة على سكان وشعوب هذه المنطقة المنكوبة .. وتعبير منكوبة مستعار من عديد من الأدبيات الكثيرة التى ازدحمت بها المكتبات الورقية والإلكترونية بعد ما يسمى الربيع الربيع العربى.
ربما تعتاد هذا الإطراء لكونك من تلك الجزيرة الصغيرة التى اعتاد أهلها على قطف بلحهم «الرطب» بأيديهم وصيد سمكهم أيضا حتى وصلتهم أخيرا بعض من لوثة أخلاقيات الثراء وما يتبعه من اتكالية شديدة على أيد عاملة لا تحمل من مؤهلات غير رخصها لأنها الأخرى ضحية فقر وقلة تنمية وأنظمة اعتمدت فى اقتصادها على مداخيل فقرائها من النساء والشباب والرجال.. وفيما يتوجب على فقراء الخليج أن يتكاتفوا معهم أو كما قال ذاك القادم من أوائل الثورات الحقيقية «يا عمال العالم اتحدوا» راح العمال يمزقون بعضهم بعضا!!!
***
تعود لجزيرتك وهويتك التى لا تمل أن تكرر أنها عربية من تلك الجزيرة الصغيرة فى ذاك الخليج الحالم جدا حتى أنه صدق الحلم المؤقت.. فقد انتابك الحزن أخيرا مع ربط هويتك بأضيق تعريف لها ألا وهو طائفتك التى تعرف دوما ومنذ طفولتك أنك مسلم، ولكنك لم تدرك أن كل كيانك سيرتبط يوما ما ليس فقط بإسلامك بل بطائفتك.. تفكر جليا فى ان أهلك لم يعلموك يوما أن هويتك هى طائفتك ربما لشديد قوميتهم، ربما لعشق والدك لعروبته وانتمائه لها ككل العرب فى تلك المرحلة التاريخية عندما كانت خطابات عبدالناصر تخلق صمت على الزقاق «الداعوس» الضيق المتعرج عند خواصر البيوت الحالمة وتحت شجرة الكنار المثمرة دوما.. حيث يتحلق الرجال حول المذياع الخشبى فى القهوة الشعبية عند البراحة وتبقى النساء فى فضاءاتهم المتاحة فى البيوت بأحواشها الواسعة تضللها أحيانا نخلة.. لم تكن نسائنا كما يحب أن يتصور البعض الآن حبيسات العقول بل على العكس كانت الجدة هى التى تتصدر المنزل تأمر وتنهى وتدير وتتابع رغم أنه فى الكثير من الأحيان لم يكن يَفُكن الخط أو على درجة من التعليم لم تتعد الكتاتيب ودروس تحفيظ القرآن.
لم تكن تعرف أى تعريف لك سوى أنك عربى من ذاك البلد الأصغر على تلك الخارطة المزركشة بألوان الطيف من قوميات وأعراق وأديان وطوائف. تقول فى نفسك وأنت تزور إحدى هذه الدول التى جمعت تحت مظلة مهترئة سميت جامعة وكانت السبب الأكبر فى التفرقة وليس الجمع، تكرر كم جميل أن يكون وطنك أكبر من اتساع المحيط وكم محزن أن يصبح الوطن بحجم كف اليد أو الطائفة!!
***
تعرفت على هذا التعريف أخيرا مع اشتداد حدة النزاعات على الهوية. كنت وانت صحفية صغيرة تحملين آلة كاتبة صغيرة وكاميرا أثناء الحرب الأهلية فى لبنان أو البوسنة، تتصورين أن الحروب على الهوية لا تزال شديدة البعد.. كنت تطمئنين النفس بأن ما حدث فى لبنان ما هو إلا حروب الصراعات الدولية بأيد إقليمية، كثيرا غُلٍفت بالدين مرة ومرات.. كنت حينها كما سنين عمرك ساذجة أو ربما حالمة كما كل أولئك الشباب والشابات الذين خرجوا قبل أربع سنوات ونيف يرددون «الشعب يريد» كانوا حالمين ككل الثوار قبل أن تسرق ثوراتهم أو انتفاضاتهم أو ربيعهم حتى لا نتوقف عند الأسماء طويلا فنغطس فى هكذا مستنقع.
أن تكون طائفتك هى هويتك أو هى الوسيلة الوحيدة للتعريف بك أن تسبق هويتك الطائفية اسمك أو معنى عملك أو حياتك فهذا يبعث على الكثير من الخوف من الحاضر بل والقادم.. أن يتقبلك أحدهم بعد أن أطال لحيته واتشح الأسود لونا له ليكون جزءا من الصورة المتكاملة للهوية فهو لأمر يدعو للقلق والحزن معا.. تحاول أن تفهم هذا المنحدر العميق وأن تفسره.. تحاول مرارا أن تكرر أنها مرحلة لن تدوم ولن تتعمم على الجميع، ولكن إن هذا الآخر هو محض وهم؛ لأن الواقع أكثر قسوة وتعقيدا، وتدرك أن أجيالا كاملة لن تعرف لها هوية سوى طائفتها أو ربما دينها.. ستعرف أن كثيرا من المسلمين لا يعرفون الاسلام إلا شعارا للدم والموت والدمار.. تعرف أن قطع الرأس يبرر تحت غطاء الدفاع عن الطائفة، تلك الطائفة التى اكتشفت أنت أخيرا أنك تنتمى لها حتى إنك تخجل عندما تسأل عنها بأنها والدين هما ليسا خيارين لك بل إنك ولدت بهما كما الوشم على الجلد الأول لطفولة كانت أكثر نقاء من أن تتلوث بغطاء أو تعريف أو تبرير للموت.. تريد أن تقول إن هذا ليس الاسلام الذى علمنى عليه أبى والذى ركعت أمى على سجادته عند أول طلوع لفجر هادٍ فى بيتنا الدافئ هناك عند سفح الأمل..
***
هذه ليست هويتى اعذرونى..