المدنيون فى ورطة! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المدنيون فى ورطة!

نشر فى : الإثنين 21 أكتوبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 21 أكتوبر 2013 - 8:00 ص

ليس من السهل فى العلوم السياسية بشكل خاص والاجتماعية بشكل عام أن تضع تعريفا جامعا مانعا للمفاهيم والمصطلحات، ولكن ربما لم أواجه تعقيدا وتشتيتا فى تعريف أى مصطلح مثلما واجهت فى تعريف «المدنية» وخاصة فى مصر والعالم العربى. فاللفظ غامض بشكل مثير وله دلالات مختلفة عند النخب والشعب على حدة سواء.

وبشكل عام فإن المدنية فى مصر قد أصبحت غاية مشوهة المعالم، فالكل يدعى السعى لبناء مصر المدنية الديمقراطية، ولكن نفس هذا الكل يرى المدنية والديمقراطية بطريقته وأسلوبه وتعريفه، ومن ثم قد تجد تيارين متصارعين يدعى كلا منهما السعى للمدنية بإزاحة الآخر للوصول إلى تلك الغاية الغامضة! فالاخوان يدعون أن دولتهم التى يسعون إليها مدنية، وغيرهم من التيارات السلفية يؤكدون أن الدولة فى الإسلام مدنية، كما يدعى الليبراليون والعلمانيون واليساريون السعى للحفاظ على نفس هذه المدنية حتى كاد اللفظ أن يفقد معناه تماما مثلما فقدت معانى كثيرة فى هذه الأيام الصعبة.

●●●

ولكنه ولأنه اصطلح فى مصر عرفا أن تكون التيارات المدنية هى التيارات غير الإسلامية (أى تلك التى لا تؤمن بالإسلام السياسى كطريق للسلطة ومنهجا للحكم) فسأسعى فى السطور القليلة القادمة إلى إظهار أبعاد أزمة هذا التيار المدنى والتى أعتبرها دون مبالغات أحد أهم أسباب فشلنا السياسى الذريع، فتحميل المسئولية لتيارات الإسلام السياسى وحدها هو من قبيل الغبن البين:

أولا أزمة التعريف: أستطيع أن أدعى أن قطاعا كبيرا من «المدنيين» فى مصر هم فى واقع الأمر علمانيون ولكنهم يخشون صدمة المجتمع ومصارحته بحقيقتهم تلك، ورغم أن كاتب هذه السطور يؤمن بأن العلمانية حقا وصدقا ليست كفرا، ولكنها نتاج تطورات تاريخية اجتهد وسعى الانسان من خلالها إلى وضع حد فاصل للمشكلة الوجودية فى العلاقة بين البشرى المدنس والدينى المقدس، إلا أن العلمانية نفسها لا تضمن المدنية ولا تحقق الديمقراطية تلقائيا، وبالتالى أن تكون علمانيا لا يعنى حقا أنك تؤمن بمدنية الدولة أو بديمقراطيتها. لذلك يضع عدد من علماء السياسة فاصلا بين علمانية الدولة وبين طبيعتها المدنية على مستويين، الأول: أن عددا من الدول العلمانية هى دول عسكرية أمنية (كحال باكستان وقت حكم برفيز مشرف)، والثانى: أن عددا آخر من دول العالم العلمانية كانت قمعية وشمولية (تونس فى عهد بن على على سبيل المثال)، وبالتالى فتحقيق حلم الدولة المدنية لا يتأتى بالعلمانية فحسب، ولكنه يتأتى ببذل جهد مضاعف لضمان أن تلك العلمانية هى غير عسكرية وغير ديكتاتورية فى الوقت ذاته.

●●●

ثانيا أزمة الهوية: وترتبط هذه الأزمة بسابقتها، فأن تكون مدنيا لا يعنى بالضرورة أن تكون علمانيا مناديا بوضع حد فاصل بين الدينى والمدنى، ولكنه يعنى أيضا أن تكون مناهضا لعسكرة الدولة ونظام الحكم بها. فالمدنى ليس ما هو ضد الدينى فقط ولكنه أيضا ضد العسكريى، ويرى عدد آخر من علماء السياسة (منهم الألمانى أريل كرواسون فى كتابه الديموقراطية تحت الضغط Democracy Under Stress) أن ديمقراطية الدولة لا تتحقق إلا بعد تحقيق سيطرة مدنية على مؤسساتها وعملية صنع القرار بها، وأن تلك السيطرة لا تتحقق إلا بإبعاد المؤسسة العسكرية عن التدخل فى الشئون السياسية! ومن هنا يظهر لنا أزمة قطاع معتبر من المدنيين فى مصر والذى يبدى ترحيبا مبالغا فيه بالتدخل العسكرى فى الشأن السياسى معتقدا أن التخلص من المدلسين باسم الدين كاف لتحقيق مدنية الدولة وديمقراطيتها، وقطعا فهذا حسابا خاطئا ولا أتذكر نظاما عسكريا بعد الحرب العالمية الثانية على الأقل استطاع تحقيق نظاما ديمقراطيا حرا.

●●●

ثالثا أزمة البديل: أما الأزمة الثالثة التى يعانى منها المدنيون فى مصر فهى أزمة التنظيم والمشروع والبديل، فالمدنيون لديهم تنظيمات حزبية ضعيفة أو كما عبر نائب رئيس أحد هذه الأحزاب وهو معى على الهواء واصفا هذه الأحزاب بأنها «دكاكين» أى أنها لا تملك جماهيرية حقيقية ولا قادرة على صنع مشروع بديل لقيادة الدولة المصرية. واذا كان مشروع النهضة الاخوانى وهما (وهو بالفعل كذلك) فإن الأحزاب المدنية ليس لديها بعد حتى مقومات ادعاء امتلاك هذا الوهم. ولعل هذا يفسر تورط بعض قيادات هذه الأحزاب فى الدعاية المجانية للمرشح العسكرى المحتمل (الفريق السيسى)، أو حتى للتصريح بلا خجل عن أنه لا مستقبل للسياسة فى مصر بدون الجيش لاعبا أساسيا فى المعادلة. ولعل هذا يفسر أيضا أن بعض الوزراء والمحافظين فى الحكومة الانتقالية الحالية أصبحوا يتصرفون كمخبرى أمن الدولة على مستوى السياسات والتصريحات، فتجد هذا محرضا ضد قطاع من المواطنين، وذاك مفوضا للمرشح العسكرى المحتمل فى احتفالية رسمية، وثالث متورطا فى ترديد تحليلات أمنية ومخابراتية عن الأوضاع فى البلاد دون تحقق ودون مراعاة للمنصب أو للمخرج المنتظر من صاحبه، الأمر الذى أوقع الحكومة الحالية فى نفس خطية سابقتها من ترديد للخطاب الأمنى الاقصائى على حساب الخطاب السياسى الادماجى. 

●●●

رابعا أزمة المساحات: فلا شك أن التيار المدنى وخطابه النقدى للسلطة الديكتاتورية وللسياسات القمعية وانحيازه لقضايا الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان، قد اكتسب مساحات واسعة وقت الحكم المتخبط لكهول المجلس العسكرى، ثم الحكم السلطوى لكهول مكتب الإرشاد، وبين هذا وذاك اكتسب التيار المدنى تدريجيا زخما وقبولا فى الشارع وفى وسائل الإعلام المختلفة، كما اكتسب مصداقية وسط قطاعات شبابية واسعة، وهو الأمر الذى انقلب رأسا على عقب بعد ٣٠ يونيو، فمال عد من المدنيين إلى تصدير الخطاب السلطوى متلبسا شعارات قومية تحولت لاحقا إلى فاشية تحت دعوى استعادة الدولة، وغض الطرف عن الخطاب الحقوقى فى المذابح التى تعرض لها قطاع من المواطنين أمام نادى الحرس الجمهورى وفى فض اعتصامى رابعة والنهضة. الخ، بل وعبر بعض رموز هذا التيار عن تشككهم فى امكانية تحقيق الديمقراطية فى مصر لأن الشعب غير مؤهل هكذا ببساطة! بل وزايد بعضهم على من ينتمون لنفس التيار لمجرد محاولة الأخيريين الثبات على أبسط قواعد ومبادئ المدنية والديموقراطية! وهو ما أكسب الرجعيين السلطويين والأمنيين مساحات واسعة للسيطرة على الرأى العام وتوجيهه بعيدا عن مدنية الدولة وديمقراطيتها المرادة! وأى محاولة من هذا التيار المدنى لاستعادة تلك المساحات الآن ستواجه برفض شديد من الجماهير أنفسها التى تعتقد زيفا أنها مجيشة فى معركة وهمية لاستعادة الدولة.

●●●

على التيار المدنى فى مصر الاعتراف بأنه جزء من الأزمة والمعضلة السياسية فى مصر، وأن تحميل تيارات الاسلام السياسى وحدها المسئولية هو أمر غير دقيق، فعيوب وكوارث التيارات الاسلامية ظهرت ببساطة لأنها كانت الأجهز والأكثر تنظيما للاحتكاك بالجماهير والنزول إلى ساحة السياسة، ولولا ذلك القصور الرهيب فى فهم الواقع وأولوياته، فضلا عن بعض المعضلات الفكرية التى تحول بينهم وبين أى دولة ديمقراطية حديثة (لا ينكر الكاتب تحيزه القيمى فى هذا العبارة الأخيرة)، لكان أداؤها أفضل، أما نظيرتها المدنية والمدعوة للحل وتقديم البديل وصولا إلى الهدف المنشود فهى فى ورطة وأزمة حقيقية متعددة الأبعاد وتحتاج بدورها لمراجعات ورؤى لإعادة الهيكلة والنزول من الساحات النخبوية إلى الساحات الشعبية حيث تكون المنازلات السياسية الحقيقية قبل أن يفوت الأوان ويصبح الحكم الديكتاتورى العسكرى حتمية تاريخية!

 

مدرس النظم السياسية المقارنة بجماعة القاهرة

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر