يواجه مجتمعنا فى مصر بعد 30 يونيو 2013 موقفاً معقدا، فيه كثير من الأوجه الباعثة على القلق الشديد، وخاصة فيما يتعلق بسمات وتكوين النخبة الثقافية السياسية المصرية، والعربية عموماً.
وأهم السمات السلوكية للنخبة العربية عموما (والمصرية خصوصاً) صفتان:
أولاهما الضعف، بمعنى عدم القدرة على مواجهة الصدمات والأزمات الكبرى بما يلزم من القوة والقدرة، ومن الجرأة والمبادرة ذات الطابع «الهجومى» إن لزم الأمر. وقد يرتد هذا الضعف تاريخياً إلى حالة الوهن البنيوى الشديد التى أصابت الجسد العربى بالذات، من جراء المواجهات التاريخية المضنية ضد الأعداء الخارجيين، وخاصة التتار والصليبيين فى المشرق، والقوط فى المغرب، حتى القرن الخامس عشر الميلادى تقريباً، مع تسلط أنظمة ذات عصب استبدادى منذ ذلك الحين. ومن أبرز الأمثلة على حالة الضعف هذه، موقف النخبة من (نكسة 1967)، على عكس موقف النخبة اليابانية مثلا من الهزيمة الماحقة فى نهايات الحرب العالمية الثانية.
وأما الصفة الثانية فهى «التشرذم»، بمعنى الانقسام والتفتت المانع من تكوين «التيار الرئيسى» فى المجتمع، والذى هو الضامن لتحقق «الاجماع التوافقى العام» حول طبيعة الأزمة والحل فى اللحظة المناسبة. ويتميز «التيار الرئيسى» بأنه يستند إلى حد أدنى من المرتكزات الإيديولوجية ذات الثبات النسبى عبر الزمن، والانتشار عبر المكان، بما يسمح بقدر ملائم من صلابة المجتمع ويساعد فى حمايته من الانهيار أو التفكك.
وبذلك يختلف مفهوم «التيار الرئيسى» عن «الرأى العام» الذى يتمتع بقدر أكبر من السيولة أو (التميّع) وقابلية التغير السريع وفقاً لاتجاهات الأحداث اليومية وضغوط وسائل الاتصال الجمعى القادرة على (التلاعب بالعقول).
•••
إضافة إلى الضعف والتشرذم وفقدان «التيار الرئيسى» كسمات سلوكية، يلاحظ من ناحية المضمون أو التكوين الموضوعى للنخبة، أنها قد حدث لها نوع من التوقف أو «تجمد التطور» عبر الزمن. فقد أدت دوراً مهماً فى مرحلة التحرر الوطنى من الاستعمار الأجنبى، وكانت «العقيدة الوطنية» بمحتواها السياسى العام بمثابة العصب الجامع والنسيج الضامّ لشتات النخب. وقد أفرزت العقيدة الوطنية اتجاهات فكرية متعددة متناسبة مع طابعها العام، أقواها الإيديولوجية السياسية الإسلامية من ناحية، والإيديولوجية الليبرالية من ناحية أخرى، وكان أضعفها الاتجاه الفكرى «التقدمى» اقتصادياً واجتماعياً. ولأمرٍ ما، أو أمور متعددة، توقفت الإيديولوجيا السياسية الإسلامية فى احوال كثيرة عند حدود الاتصال بالماضى، وتوقفت الليبرالية، فى أحوال كثيرة أيضا، عند حدود التماسّ مع الحرية الفردية تمّثلاً بالخارج أو الآخر (الغرب).
ونظراً للطابع (البرجوازى الصغير) الغالب للنخبة المصرية والعربية، ولكونها تربّت فى أحضان العمل فى الجهاز الإدارى للدولة، بما فيه المنظومة الأكاديمية، ولم تتكون فى إطار الثورة الصناعية مثلا كما حدث فى أوروبا، فلذلك نجد أنه عندما انتقل المجتمع العربى من مرحلة التحرر الوطنى الموجه ضد الاستعمار الأجنبى إلى مرحلة التحرر الاقتصادى والاجتماعى والثقافى الموجه ضد امتدادات ذلك النفوذ الأجنبى وتحالفاته فى الداخل، نكصت الاتجاهات «الإسلاموية» والليبرالية عن مواكبة ضرورات التحول الاجتماعى، فأوكلت هذه الضرورات نظرياً إلى نواة اشتراكية غير قادرة على تحمل الأعباء لظروف تاريخية، ثم أوكلت عملياً إلى قوى من خارج النخبة التقليدية كلها، وهى الجيوش، التى أخذت تمارس لعبة الانقلابات العسكرية تارة كما فى سوريا الخمسينيات من القرن المنصرم، أو انخرطت فى قيادة الحركة الوطنية التنموية الجديدة تارة أخرى، كما حدث فى مصر إبان ثورة يوليو، أو غير ذلك.
وتارة ثالثة، فإن الجيوش اخترقتها نخب جديدة، وقامت هذه النخب بامتطاء القوات المسلحة فى تجربة «ثورات ناقصة» لم تلبث أن أفرزت نظماً ذات سمات «تسلطية» جديدة. وما بين الليبرالية و«الإسلام السياسى» وتهافت عديد من التجارب الثورية، تاهت الفكرة الوطنية المتجددة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، والمتجذرة عربيا وعروبيا، فيما نسميه الاتجاه الوطنى ــ القومى التقدمى.
•••
لقد كان هذا هو الحال بالضبط عشية وغداة الانتفاضات والاحتجاجات الشعبية العربية الأخيرة 2011 ــ 2012، ثم فيما بعد الثلاثين من يونيو 2013، إذ انقشع غبار الثورات فأسفر عن فراغ سياسى قاحل، ملأته بسرعة الاتجاهات الليبرالية والإسلاموية، ثم ما لبث التيار الليبرالى أن فقد قوة الدفع، نتيجة ضعفه الجوهرى المزمن تنظيمياً وحركياً، فغدت الساحة خالية تماماً إلا من (الإسلاميين) وفى مقدمتهم أكثر الفصائل قدرة على التنظيم والتعبئة والحشد فى مصر بالذات، وهى (جماعة الإخوان المسلمين). وكان ما كان من التجربة الفاشلة لهذه الجماعة فى الحكم وإدارة الدولة المصرية.
حينذاك تقدمت المؤسسة الوحيدة ذات الثقل الفعلى، من خارج منظومة الحكم السائدة ومن خارج تشكيلة النخبة المصرية كلها، وهى القوات المسلحة وتسلمت زمام إدارة دفة الحدث المصرى باقتدار اعتباراً من يوم الثلاثين من يونيو.
وقد ارتكبت «جماعة الإخوان المسلمين» ــ كعادتها ــ أخطاء بالجملة، إذا صحّ هذا التعبير، حتى لقد أصبح من الممكن القول بخروجها المحتمل من ساحة الفاعلية السياسية الإيجابية البارزة على مستوى المجتمع المصرى، وربما العربى ككل، خلال سنوات قادمة، إلا إذا حدثت متغيرات ليست فى الحسبان.
•••
وفى ضوء التحليل السابق وكما هو متوقع، بعد 30 يونيو 2013 بالذات، فإن النخب الليبرالية، بضعفها وتشرذمها وانعدام قدرتها على تكوين تيار رئيسى فعال، أصيبت بالارتباك، فلم تستطع صياغة موقف سياسى على مستوى عمق الأزمة الجارية وانخرطت فى ممارسات متعثرة ينصبّ جلها على لوم القوات المسلحة على «العنف المفرط» واستخدام «القوة غير المتناسبة» أثناء عملية «فضّ الاعتصام» وما تلاه من أحداث جسام، مع تعبير قوى عن الخشية من عودة مزعومة لنظام مبارك و«دولته العميقة». وكذلك عبرت هذه النخبة المفتتة عن الخوف من نشوء نظام عسكرى، أو نظام تقوده القوات المسلحة، انطلاقاً من الادعاء الذائع بأن ثورة يوليو كانت تعبيراً عن (حكم العسكر)، شأنها شأن ما تلاها من فترة الردة المضادة للثورة، سواء فى المرحلة الساداتية المبكرة أو فى المرحلة «المباركية» اللاحقة.
وهكذا أخذت تتناسى النخب الليبرالية آلامها المبرحة وجراحها العميقة إبان الصراع المضنى مع تيار الإسلام السياسى، ومالت إلى تركيز ضرباتها (من تحت الحزام) إلى المؤسسة العسكرية الوطنية.. وتقدم أخطاء الحكومة القائمة بعد 30 يونيو، فى المجالين الأمنى والاقتصادى، مادة دسمة بالطبع للدعاية الليبرالية النشطة فى مواجهة ما يسمونه (العسكر).
وهكذا تدور النخبة المصرية حول نفسها فى حلقة مفرغة، وتعيد إنتاج ذاتها الضعيفة والمتشرذمة بصفة مستمرة، وتحمل تهديداً دائماً بنشر سحب اليأس المطبق من المستقبل. فكيف تتجّدد النخبة وتصير قوة فاعلة حقا؟