اتسمت الأيام الأخيرة بتجدد التحركات والمساعى بين إسرائيل و«حماس» من أجل صوغ صفقة لتحرير الأسرى. فالإدارتان الأمريكيتان، المنتهية ولايتها والجديدة، تضعان الآن كل ثقلهما كى تفرضا على الطرفين اتفاقا قبل التبدل الرئاسى، أى قبل شهر تماما، وسبق أن شهدنا هذا عدة مرات السنة الماضية، لكن فى هذه المرة، فإنهم يؤكدون لنا أن النهاية ستكون مختلفة، وأكثر تفاؤلا.
لكن التخوف الذى بدأت عائلات الأسرى التعبير عنه علنا وبقوة أكبر هو ألاّ يتم التوصل فى نهاية الأمر إلى صفقة شاملة. وبحسب العائلات، فإن المفاوضات بين إسرائيل و«حماس» ستنفجر خلال الانتقال من الدفعة الأولى إلى الثانية، بسبب الصعوبة التى ستواجهها إسرائيل فى تلبية المطالب المبالَغ فيها للتنظيم «الإرهابى».
وفى سيناريو كهذا سيبقى الأسرى الذكور، الجنود والمدنيون الشبان، فى القطاع، وسيعود الجيش إلى القتال من أجل إنقاذهم. لقد مات عشرات الأسرى منذ الصفقة الأولى التى جرت فى الأول من ديسمبر الماضى؛ بعضهم بقصف إسرائيلى عن طريق الخطأ، والبعض الآخر بسبب المرض، ومنهم «قُتلوا بدم بارد» على يد خاطفيهم من «حماس». وسيكون هناك مصير مشابه لهذا فى انتظار الأسرى الذين لن يحرَروا فى الدفعة الأولى من الدفعتين المخطط لهما.
• • •
إن نقطة ضعف الصفقة الآخذة فى التبلور ناجمة عن نية الذين صاغوا تقسيمها على دفعتين. وتعتقد الولايات المتحدة والدول الوسيطة، مصر وقطر، أنها ستنجح فى دفع إسرائيل إلى نوع من مكان لا عودة عنه، بحيث من اللحظة التى سيبدأ فيها تحقيق الدفعة الأولى، سيكون من الصعب على حكومة بنيامين نتنياهو الانسحاب من الاتفاق؛ فتفجير الصفقة فى الفترة الانتقالية بين الدفعتين سيؤدى إلى تجدد الحرب، وبقاء سائر الأسرى فى قطاع غزة، ولن يكون فى إمكان الحكومة مواجهة الضغط الذى سيمارَس عليها من الخارج ومن المجتمع الإسرائيلى.
إن التقدير أن المفاوضات من المنتظر أن تفشل فى قسمها الثانى يعود إلى فهم اعتبارات الطرفين، فالموضوع الحاسم بالنسبة إلى «حماس» هو إنهاء الحرب والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من القطاع، ومن أجل التوصل إلى هذا الهدف، وفى ظل الوضع الذى وصلت إليه قيادة الحركة، فمن المرجح أن توافق على أن تكون مرنة فى الدفعة الأولى، وستقبل بقاء الجيش الإسرائيلى جزئيًا فى القطاع طوال فترة تنفيذ الصفقة التى سيطلَق خلالها سراح النساء والمرضى والمتقدمين فى السن من المخطوفين فى مقابل عدة مئات من الأسرى الفلسطينيين، لكن نتنياهو وشركاءه من الصعب أن يدفعوا الثمن الباهظ الذى تطالب به «حماس» فى مقابل تحرير الجنود والمدنيين الباقين (بالإضافة إلى استعادة جثامين الأسرى). وفى أوضاع كهذه، فمن المتوقع توقُف الاتصالات وتجدُد الحرب، وهذا سيكون بمثابة كارثة بالنسبة إلى عائلات سائر الأسرى.
شهدت الأسابيع الأخيرة تغييرات مهمة من وراء الكواليس طرأت على أسلوب العمل فى طاقم النضال من أجل تحرير الأسرى؛ إذ غادر عدد من المستشارين الاستراتيجيين الذين تولوا مهمات مركزية فى النضال، وانتهجوا خطًا معارضًا لنتنياهو وحكومته مناصبهم. والآن، تتحرك العائلات على عدة قنوات عمل متوازية، بالإضافة إلى تنظيم التظاهرات والاحتجاجات، محاولة التأثير فى نشطاء اليمين، وحتى نشطاء اليمين المتطرف، وإقناعهم بالتخفيف من معارضتهم للصفقة.
• • •
الفكرة هى أن اليسار والوسط وحتى الأحزاب الحريدية ستوافق على أى صفقة يوافق عليها نتنياهو، بَيْدَ أن الصعوبة تكمن فى التخفيف من معارضة اليمين بهدف الحصول على أقصى حد من التأييد. وليس سرًا أن البقاء السياسى لرئيس الحكومة مرتبط بشركائه من اليمين الذين عارضوا طوال السنة الأخيرة تقديم تنازلات، وشكّلوا العقبة الأساسية فى وجه الصفقة.
ويظهر جزء من هذه المساعى ضِمن خطوات علنية؛ إذ جرى نشر رسائل الحاخامين من حزب الصهيونية الدينية (المعسكر وليس الكتلة) أعربوا فيها عن تأييدهم المبدئى لإطلاق المخطوفين بصفقة، كما جرى تنظيم زيارات للحاخامين والصحفيين إلى كيبوتسات غلاف غزة. ومع ذلك، فإن أغلبية عائلات الأسرى تأتى من كيبوتسات الغلاف ومن معسكر أيديولوجى بعيد جدًا عن اليمين، لذا، فهى تجد صعوبة فى الحوار مع الحاخامين من حزب الصهيونية الدينية، ولهذا السبب، فإن هذه الخطوات تتركز فى مجموعة صغيرة من الناشطين.
وحجة هؤلاء الناشطين هى أن اليمين العميق (الصهيونية الدينية، وقوة يهودية، وجزء من أعضاء الكنيست من الليكود) يصرون على العودة إلى القتال بعد انتهاء الدفعة الأولى، ليس من أجل إقامة المستوطنات من جديد فى القطاع، إنما لأنه فى رأيهم، فإن الأهداف الجوهرية للحرب لم تتحقق، وهذه هى نظرية «النصر المطلق» الكامنة وراء الفكرة والأهداف والتى يروج لها نتنياهو، والتى يتحدث عنها مؤيدوه من دون نقاش حقيقى.
فى الخلفية، هناك أيضًا رغبة اليمين فى تصحيح ما يعتبرونه ظلمًا تاريخيًا شهده القطاع؛ اتفاقات أوسلو، والانفصال عن غزة «2005»، وصفقة شاليط التى لم تحرر فقط 1027 «مخربًا» بل أيضًا أعادت يحيى السنوار إلى القطاع، وأدت إلى «مجزرة» 7 أكتوبر السنة الماضية.
انطلاقًا من هذا التفكير يرفض اليمين انتهاء الحرب من دون القضاء على «حماس»، أو من دون التلميح بالعودة إلى القتال بعد العثور على حجة مناسبة. وبناء على ذلك، يقول نشطاء فى طاقم تحرير الأسرى إنه يجب السعى لصفقة تأخذ فى الاعتبار الخطوط الحمراء التى وضعها اليمين العميق، وتتضمن إعادة كل الأسرى كشرط للانسحاب شبه الكامل من القطاع، وإنشاء نطاق صارم على الحدود مع القطاع وداخل الأراضى الفلسطينية، بحيث كل من يدخله يُطلق النار عليه، بالإضافة إلى فصل القطاع عن مصر بالكامل (بواسطة إغلاق تكنولوجى محكم لمحور فيلادلفيا، من دون وجود إسرائيلى مادى، وإقامة معبر حدودى تحت سيطرة إسرائيلية فى كرم أبوسالم). هذا فضلًا عن منع مشاركة «حماس» أو ممثلين عنها فى الإدارة المستقبلية فى القطاع، والإصرار على عدم عودة العناصر الذين سيطلَق سراحهم إلى الضفة الغربية أو القدس الشرقية، وطردهم إلى القطاع أو إلى الخارج.
• • •
هذه أفكار بعيدة المدى تتطلب نظرة مختلفة تمامًا إلى الاتصالات بشأن الصفقة. للوهلة الأولى، يمكن أن نجد نقطتى ضعف مركزيتين: أولًا، يدور النقاش كله الآن بشأن الصفقة وفق الخطوط العريضة التى يقترحها الجانب الأمريكى، أى على دفعتين بينما يبدو أن الدفعة الثانية لن تتحقق. والنقطة الثانية هى أنه حتى لو جرى تطبيق الخطوط الحمراء، فليس من الواضح مَن هى الجهة فى اليمين العميق التى ستوافق عليها فى نهاية الأمر، أم إن كان المعارضون للتنازلات هم الذين سيحسمون الأمر.
وعلى الرغم من الشعور الإنسانى السائد وسط أجزاء من الجمهور الدينى - القومى، فإن زعاماتهم تتصرف بصورة مختلفة؛ فالوزير بتسلئيل سموتريتش خرج من ذلك بصورة تستحق التقدير عندما وافق على الصفقة الأولى للأسرى. فهل سيتصرف بهذه الطريقة إزاء الصفقة الثانية؟
عاموس هرئيل
هاآرتس
مؤسسة الدراسات الفلسطينية