أية ديموقراطية سننتقل إليها؟ - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:32 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أية ديموقراطية سننتقل إليها؟

نشر فى : الأربعاء 22 يوليه 2020 - 7:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 22 يوليه 2020 - 7:00 م

من سخريات القدر أنه فى الوقت الذى خرجت فيه الملايين من جماهير الشعب العربى، فى شوارع شتّى مدن العرب، لتطرح شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية وشفافية ونزاهة إدارة مؤسسات الحكم، أى فى مجملها شعارات الديموقراطية... فى هذا الوقت نفسه تعالت أصوات وكتابات كثيرة غاضبة فى مختلف بلدان الغرب منتقدة بشدة إخفاقات وفضائح الديموقراطية فى بلدانهم. أن نرى عناوين من مثل «الديموقراطية وأزمتها» للكاتب البريطانى أ. س. جريلنج، ومن مثل. «كيف تموت الديموقراطية» للكاتبين الأمريكيين ستيفن لفتسكى ودانيال زبلات، ومن مثل «التراجع الكبير» للكاتب الفرنسى جاك جنرو، فإنها دلالات على نمو هلع عميق بشأن تشقّق وترهل النظام الديموقراطى فى بلدان الغرب. نحن هنا نذكر أصواتا ترتفع فى أهم بلدان الغرب الديموقراطية، من حيث وضع الأسس الفلسفية النظرية للديموقراطية، ومن حيث بناء نماذج لمؤسسات وممارسات الديموقراطية كما عرفها العالم عبر عدة قرون.
ما أثار تلك المخاوف فى أمريكا هو نجاح دونالد ترامب فى انتخابات الرئاسة لا بأغلبية أصوات المواطنين الناخبين وإنما بأغلبية أصوات هيئة انتخابية من مندوبى الولايات، وهى أصوات تتأثر بضغوط أصحاب المال والهيمنة والنفوذ فى داخل أمريكا وخارجها، بل ويمكن شراء بعضها وهكذا سمح النظام الديموقراطى لرجل نرجسى، غير متوازن عقليا، سليط اللسان، مفتقر لأية خبرة سياسية سابقة، مرتبط بمصالح أصحاب الثروة، أن يستولى على مركز سياسى بالغ الأهمية لأمريكا وللعالم كله، الأمر الذى اعتبر دليلا على تراجع فى شفافية ونظافة وعدالة العملية الانتخابية برمتها.
وما أثار الهلع فى بريطانيا هو نظامها السياسى الديموقراطى الذى سمح للحكومة أن تكون أقوى من البرلمان، كما ظهر واضحا فى مناقشات الخروج من الاتحاد الأوروبى (بريكست)، والذى أيضا تجاهل أصوات 48% من الأصوات المعارضة للخروج. هنا استطاعت أصوات قليلة متشددة فى حزب المحافظين الحاكم من التلاعب ولى الأذرع وتجاهل القضاء، الأمر الذى اعتبره الكثيرون ديموقراطيا فى الظاهر ولكنه اتوقراطيا فى الأعماق.
وما أثار الهلع فى فرنسا هو الصعود المذهل لليمين المتطرف المتنكر للمبادئ التى نادت بها الثورة الفرنسية، والمعادى للأقليات، والمطالب بتغييرات غير ديموقراطية فى العديد من القوانين.
ما جعل ذلك الهلع مضاعفا هو فشل المؤسسات الديموقراطية المدنية والرسمية فى تلك البلدان فى السيطرة على الممارسات المتوحشة للرأسمالية النيوليبرالية، من اتساع الفجوة فيما بين الفقراء والأغنياء، وإضعاف النقابات، وهيمنة المال وأصحابه على الحياة السياسية ومكونات الرأى العام.
والواقع أن الثغرات التى يذكرها هؤلاء الكتاب وغيرهم كثيرة جدا، لا يسمح المجال لذكرها، ولكنها ثغرات خطرة تستدعى مراجعة الموضوع الديموقراطى برمته، وعلى الأخص أنظمة الانتخابات واتخاذ القرارات وذلك لإبعادها عن الهيمنة والبيع والشراء من قبل مؤسسات المال من جهة، وعن الصراعات العبثية غير الشريفة فيما بين الأحزاب من جهة أخرى.
ما يعطى أهمية لمتابعة مناقشات الموضوع الديموقراطى فى بلدان الغرب الديموقراطية هو أننا يجب، ونحن نحاول الانتقال إلى النظام الديموقراطى فى بلاد العرب، أن لا نبدأ من حيث بدأوا، وندخل فى دوامة نفس الأخطاء، وإنما نحتاج إلى أن نبدأ من حيث انتهوا لنتجنب سوءات تلك الأخطاء.
لنأخذ مثالا واقعيا واحدا يوضح الإشكالية فى ممارسة الديموقراطية فى أغلب بلدان الغرب الديموقراطى. إنها إشكالية نجاح من يحصل على أعلى نسبة من أصوات الناخبين الموزعة فيما بين المتنافسين. فلو أن ستة مرشحين تنافسوا على مقعد واحد فى دائرة انتخابية، وحصل كل واحد من خمسة من هؤلاء على 15% من أصوات الناخبين الإجمالية، بينما حصل السادس على نسبة 25% من الأصوات، فإن المقعد يعطى لهذا السادس بالرغم من أن 75% من الناخبين لم يصوتوا له ولم يرغبوا فى انتخابه... فهل يعقل تجاهل أغلبية الأصوات التى لم يحصل عليها المرشح المنتخب؟ وفى هذه الحالة هل حقا أن الذى سيجلس فى البرلمان كممثل عن تلك الدائرة يمثل حقا أغلبية سكان تلك الدائرة؟ وبالطبع لا يمكن اعتبار تلك العملية ديموقراطية لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار بأن الغالبية لم يصُوتوا للمرشح الناجح.
من هنا طرح الكثيرون للحاجة لإجراء تعديلات فى نظامهم الديموقراطى والانتقال إلى نظام التمثيل النسبى فى كل الانتخابات ليأخذ بعين الاعتبار نقاط ضعف من مثل التى أوردنا.
لكن الأخطر من الإشارة إلى تلك النقاط الإجرائية من قبل مثل هؤلاء الكتاب هو نعيهم لموت روح ممارسة الديموقراطية فى الغرب. ما عادت الأحزاب تتنافس بشرف وأريحية وإنما هى فى حروب الإماتة لبعضها البعض واجتثاث خصومها من الوجود، وما عادت الشفافية متوفرة فى عملية الانتخابات، وما عادت القوانين والأنظمة تضبط حدود كميات الأموال التى يحصل عليها المرشحون من الأغنياء وما يعنيه هذا من بيع وشراء للذمم والمواقف، وما عادت المناقشات السياسية تحكمها منطلقات الديموقراطية من تسامح وعفة لسان وتقبل للرأى الآخر. إنهم بمعنى آخر ينعون موت روح ومبادئ الديموقراطية فى مؤسسات المجتمع وعقل الأفراد وانتقالها التدريجى لتكون نوعا من الأوتوقراطية المقنعة المضللة. هناك إذن موت للمكونات القيمية والأخلاقية ونقاط ضعف شديدة فى المكونات التنظيمية.
إذ نحن نتطلع للانتقال من وضع الاستبداد الذى عشناه قرونا فى بلاد العرب إلى وضع نور الديموقراطية، نحتاج أن نتأكد من غياب الظلال ومصادر الظلام الخفية فى ساحات النور تلك.
هذا موضوع يحتاج الشباب أن يعوه جيدا ويتعمقوا فى كل جوانبه.

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات