المثقف العربى ومعادلة الاضطراب الفكرى - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:02 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المثقف العربى ومعادلة الاضطراب الفكرى

نشر فى : الخميس 22 ديسمبر 2016 - 9:45 م | آخر تحديث : الخميس 22 ديسمبر 2016 - 9:45 م
نشرت مؤسسة الفكرة العربى مقالا لـ«مأمون شحادة» الكاتب الفلسطينى، حول المثقف بالمنطقة العربية والاضطرابات الفكرية والواقع الضبابى الذى يقابله والتجارب التى تعصف به وغيرها من القضايا المتعلقة بالمثقف العربى.
يستهل الكاتب بأن معادلة الاضطراب الفكرى لم تكن واضحة أمام المثقف العربى، ولا هى متناثرة بين عناصر المجالات الحياتية، إلا بعد سقوط القبعة من على رأس جعبة الأفكار وامتدادها الاجتماعى.

يقف مثقف أمة الضاد أمام واقع ضبابى، وأمام حقب مضت بعناوين كثيرة حُملت على سفينة تلاطمها الأمواج، بغض النظر عن المكان الذى ترسو فيه؛ إلا أن سخونة الأجواء السياسية عصفت بشراعها، ليصبح المثقف أسير واقعه وماضيه، باحثا عن معادلة نقد الذات والواقع والتاريخ.

حالة الجمود التى وصلت إليها طبقة المثقفين العرب أرخت بظلالها على الشارع العربى جراء التغنى بتجارب الحراك العالمى وعلى رأسه الثورة الفرنسية.

الفصام الثقافى الذى وصل إليه العديد من أفراد تلك الطبقة أدى إلى ازدواجية الرؤية تجاه الثورات العالمية، قياسا، وأضاف إلى الشارع حالة مبهمة ضبابية عصفت بالفكر العربى إلى الهاوية؛ لأن من طبيعة التشكل الاجتماعى، أن لكل مجتمع خصائصه وثقافته المحددة. فالعلم يمكن الحصول عليه من أى مكان. أما الثقافة فلها خصوصيات، وأهل مكة أدرى بشعابها.

الثورة الفرنسية لها ظروفها وثقافتها المجتمعية، والحراك العربى له ظروفه وثقافته، والمقاربة بين الحالتين سذاجة كبيرة واستهانة بالعقول، ويجب معرفة أن الغرب عندما كان يتحرر، كان يصدر مشكلاته إلى خارج حدوده الإقليمية، بعكس الحالة العربية، التى أصبحت تستورد كل مشكلات الدول المحيطة والعالمية، لدرجة أنها تحولت من قضية راسخة إلى مسألة تنتظر الحلول كافة.

التجارب التى عصفت بالمثقف العربى كثيرة ومتنوعة، فـ«مثقف» اليسار والاشتراكية والشيوعية ينادى بشعارات هزمت فى موطنها الأصلى، فتلك التجارب بعيدة كل البعد عن ثقافة التجربة العربية، سلوكا وتوجها ومضمونا.

المثقف الإسلامى يتبنى شعارات يختلف عليها بين الراديكالية والسلفية والدعوية، حتى مَن ينادون بالتجربة الأردوغانية، ينبذون شعار القومية فى بلدانهم، مع العلم بأن الجمهورية التركية بنيت على أساس هذا الشعار وما زالت متمسكة به حتى الآن.
أما مثقف القومية العربية، فيقرأ الواقع العربى وفقا للفصل بين متطلبات القومية، ويحاول بناء تاريخ فوق التاريخ، متجاهلا التاريخ المشترك، وتجاربه التى توجز الكثير من مستقبل مبهم يتطلع إليه.

كذلك المثقف الليبرالى، يتبنى أفكارا مستنسخة عن المجتمعات الغربية، التى لا تتواءم حتى الآن وثقافة المنطقة العربية. ناهيك بالمثقف الديمقراطى، الذى يعتقد أن الديمقراطية عصا سحرية تلائم المجتمعات كافة… والقائمة طويلة.

***

من جهة أخرى يتطرق «شحادة» إلى أن انشطار الثقافة العربية بين مثقف يؤيد النظام وآخر يؤيد الحراك العربى الشعبى، أظهر كما هائلا من المعضلات الفكرية، التى انهكت البلاد العربية مدا وجزرا، كل يرخى بظلاله على الآخر. فالمحصلة واضحة من وراء غربال فضفاض تترامى أطرافه الدائرية بين كسر الأنا والآخر، مظهرة تراكمات مثقف ينحصر بين تبعية إقليمية ودولية تساند الأنظمة من جهة، والحراك من الجهة الأخرى، فى دلالة على مدى ترهل تلك التراكمات، التى تجسدت فى رواية تغذت على الشعبوية، لترسم حاضرا أكثر فداحة، وكأن المثقف فى حالة من التيه، لا يستطيع بناء معادل الدولة إلا من خلال رؤية من يرسم طريق التبعية للآخر.

معادلة انشطار الثقافة لم تقف عند هذا الحد، بل تجاوزت كل ما كان يتوقعه العقل، حيث ظهرت حلقات المصارعة الفكرية، على الهواء مباشرة، بين أفراد النخبة المثقفة، الذين تعاركوا بالأيدى، وهم يشتمون بعضهم بألفاظ نابية، ما أدى إلى إحداث شرخ عميق بين أفراد المجتمع وتلك النخب.

فيما يتعلق بالتباعد الثقافى بين مشرق الوطن العربى ومغربه؛ هنا يتوقف الفرد العربى فى مساحة يجهل اتجاهاتها، معتبرا نفسه فى حالة من التيه والضياع، وقد توصَل إلى أن التنظير يختلف عن التطبيق، وأن الشعارات كافة التى كانت ترفع، هى مجرد نظريات فارغة المضمون. أمام هذه المحطات المشبعة بإشكاليات سلوك المثقف نتوقف عند «التباعد الثقافى» وكأنه معادلة انفصال مبهمة العناصر، فهل يتحمل المثقف مسئولية ذلك؟

من الأخطاء الكبرى التى يقع فيها مثقفنا، استمرارية البحث عن حلول تثاقفية تقارب بين المجتمع العربى والمجتمعات الأخرى، متجاهلا نصف ذاته المختطفة المتشظية بين المشرق والمغرب، فبدلا من هذا البحث السرابى العقيم والهروب من أمام واقعه، وجب عليه إيجاد استمرارية تقاربية للذات، لكى يفهمنا الآخر.

بالتأكيد إن هذا النهج الثقافى يزيد من هوة التباعد والتنافر تحت مسميات الدولة القطرية والأصل التكوينى لها، مكونا معادلة ثقافية وهمية مبتعدة عن مفهوم التقارب.

ثمة سؤال يرتفع فى ذهن الفرد العربى، ألم تضطلع القضية الفلسطينية بدور فعال على مستوى ردم الهوة الثقافية بين مشرق الوطن العربى ومغربه؟ نعم، اضطلعت القضية الفلسطينية، وعلى نحو كبير، بهذا الدور القومى، غير أنها هى الأخرى وقعت فى الهوة ذاتها، جراء الانفصال المؤلم بين الضفة الغربية وقطاع غزة. فالتخوفات تتجه نحو بزوغ ثقافة وهمية تفصل بينهما فى حال استمر الانفصال، ليتبين أن النخب الثقافية العربية تقف على محك التنافر القطرى، غير قادرة على رسم طريق التكامل الثقافى، وها هى الهوة تزداد عمقا وامتدادا نحو تجزئة المجزأ وتفتيت المفتت.

***

على صعيد آخر توجد أطروحات كثيرة يقف أمامها المثقف العربى، ويرتضى العوام بدور المشاهد، والأكثر إيلاما اصطناع مفهوم «المؤامرة»، التى تطفو على السطح بين حين وآخر، فى دور يتضمن تبريرات جديدة تخرج، إما من دوائر النظام أو المعارضة، كل يتهم الآخر.

الأدهى والأمر من ذلك، أن هذا المفهوم يتبوأ باكورة أفكار النخب الثقافية، فى إشارة إلى أن البلاد العربية مستهدفة من الآخر، زمانيا ومكانيا، مع العلم بأن تلك النخبة تعلم يقينا أن الأحداث التاريخية العربية زاخرة بالصراعات، التى ما زالت تتكرر بصورة طبق الأصل فى تاريخنا الحديث – بغض النظر عن مرحلة كان العرب يتبؤون فيها عالميا الهرم السياسى والحضارى.

لم يستطع المثقف أن يوصل إلى الفرد العربى رسالة واضحة عن استمرار التأزم السياسى العربى، وتغاضت النخب الثقافية عن حقيقة هذا التأزم، وتجاهلت أن الفرد العربى غُيب عن خوض الحراك السياسى، بسبب الحكم التقليدى، والقرارات الإقصائية، وغياب التنشئة والثقافة السياسية، ليتبلور فى ذلك مفهوم سياسى مبنى على تداول الدولة وليس السلطة.

يتضح أن «مثقف العصر الحديث» هو صورة طبق الأصل عن «مثقف العصر القديم»، يمارس الدور ذاته، ويتحدث ليل نهار عن مفهوم المؤامرة، متجاهلا أن الساحة العربية مثقلة بكثير من المعضلات والإشكاليات الداخلية، والجماعات التى تبتغى الاستيلاء على السلطة.

دخولا إلى عالم الحزبية والانتماء الإيديولوجى، فمعظم من يتبوأ رأس الهرم الحزبى العربى هم من المثقفين، ويشكلون صورة طبق الأصل من الحاكم السياسى العربى، من خلال تمسكهم بكرسى الحزب، حتى أن النخب الثقافية داخل الحزب تدافع عن مبادئ حزبها ضمن دائرة «التحيز التعصبى»، التى لا يُفَسَر سياقها إلا من خلال اتهام الآخرين بالمؤامرة وغيبيات البروباجاندا. فالحزبية بتسمياتها كافة، تتبنى مبدأ «النظام الأبوى» الذى تسير عليه العشائرية والقبلية.
***

تعيش بلداننا عصر النص المفتوح، الضارب فى كل مفاصل الحديقة الثقافية، وما مواقع التواصل الاجتماعى إلا مثال على ذلك، حيث انحنى المجتمع إلى صفرية التفريغ الإلكترونى، وكأن كل فرد فيه يمتلك دولة إلكترونية خاصة به، يفرغ شحناته «التصحيحية» فى فضاء عالم افتراضى، كمَن يخض الماء ليصنع لبنا، والأكثر عرضة هى النخب الثقافية، التى ارتضت بالشكليات الإلكترونية بعيدا عن الواقع اليومى، وقبلت بالشعارات الطنانة الرنانة والصور الثقافية المشبعة والمغلفة باتجاهات كشفت الوجه الحقيقى عن طبقة ارتَوت من ماء كنا نشربه جميعا، فخرجت صورة طبق الأصل عن تصرفاتنا المجتمعية، التى تتجه نحو انحدار المجالات الحياتية، فالواقع العربى يحتاج إلى شعارات تتناسب مع واقعه، وليس ثوبا فضفاضا تتلاعب به الرياح الإلكترونية.

على تلك الطبقة ضبط تصرفاتها، وطرح قضايا ترشد المجتمع نحو الحقيقة، وليس إشباعها بشحنات إلكترونية منتهية الصلاحية، لأن الشبكة العنكبوتية بتوجهاتها واستمالتها، تشكل نقطة مهمة يجب استغلالها بطريقة خلاقة بعيدة عن النهج الخطابى الفضفاض.
يتضح أن المنطقة العربية تفتقد نكهة ثقافية خاصة تكسب الفرد ثقافة سياسية واضحة، فالواقع العربى أكبر من كلمة مثقف، وأكبر من عبارة: «إن انهيار الحزب أو القبيلة أو الطائفة أو السلطة يعنى انهيار الدولة والتغنى على جراحها».

***

يختتم الكاتب بأن حال المثقف العربى فى وضعٍ لا يحسد عليه؛ إنه تماما كـ«الواقف» على صفيح ساخن، تتلاعب به رقصات الموت وضحكات الخوف، لا يستطيع المواءمة بين الماضى والحاضر والمستقبل، ويعتمد المثالية أكثر من الواقعية، فهو إما مثقف سلطة، أو حزب، أو قبيلة، أو طائفة، أو «مثقف مرحلة»، وإما «تابع» يضرب حجر النرد إقليميا ودوليا، أو مثقف «شعبوى» يُختزل بمرور الزمن، أو «خجول» يترنح بين الأنا والآخر، أو «مثقف كلمة» ابتعد عن الواجهة… فهل يستحق المثقف العربى لقب «النخبة«؟ أم إن المستقبل سيحمل من ضمن طياته مفاجآت تَقلب الطاولة؟

النص الأصلى:

التعليقات