حتى صباح يوم 25 يناير لم يتوقع أحد فى واشنطن أن تخرج جموع غفيرة من الشعب المصرى مطالبة بسقوط نظام الرئيس حسنى مبارك. وكان لسرعة الإعلام الأمريكى بالتحرك للقاهرة وتركيز كاميراته على ميدان التحرير أثر كبير فى توصيل جدية تظاهرات الشعب المصرى لصانعى السياسة وللمواطن الأمريكى.
وتطور الموقف الرسمى الأمريكى على مدار الثمانية عشر يوما التالية طبقا لما أسفرت عنه تطورات الأحداث المتلاحقة داخل مصر. لم يصدر أى بيان عن واشنطن يتضمن دعم مطالب الشعب المصرى المعتصم فى شوارع القاهرة والمدن الأخرى والمتمثل فى إنهاء حكم نظام الرئيس المصرى، وضرورة تنحيته. وطالبت واشنطن فقط النظام المصرى بالإصلاحات وفتح المجال أمام الحريات، وتجاهلت أحد شعارات الثورة المصرية وهو «الشعب يريد إسقاط النظام».
•••
مع بداية أول أيام ثورة مصر يوم 25 يناير، عبرت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، هيلارى كلينتون، عن قلقها تجاه ما يحدث وقالت «تقييمنا هو أن الحكومة المصرية مستقرة وتبحث عن سبل للاستجابة للاحتياجات الشرعية ومصالح الشعب المصرى»، ثم تطور الموقف الأمريكى بمطالبة باراك أوباما للرئيس المصرى بأن يمنع وقوع ضحايا بقوله «همنا الأول هو منع وقوع إصابات أو خسائر فى الأرواح».
بعد ذلك تطور الموقف الأمريكى تصعيدا مع تطور واستمرار ومظاهرات المصريين. ومع إقرار واشنطن بضرورة إجراء تغييرات مهمة داخل منظومة الحكم المصرى، عملت واشنطن على ضمان عدم إسقاط النظام المصرى كله، وقبلت، بل وشجعت صيغة « orderly transition انتقال منظم للسلطة»، يسمح بتولى نائب الرئيس اللواء عمر سليمان زمام الأمور فى مصر.
من هنا دفع تصميم المتظاهرين المصريين على إسقاط الرئيس إدارة أوباما إلى وضع لا تحسد عليه. إذ أن المستقبل المتوقع حال سقوط مبارك لم يكن يحمل إلا التراجع فى مستوى النفوذ الأمريكى داخل مصر، ولتدخلها فى الشئون المصرية الداخلية والخارجية. فقد رأت الإدارة الأمريكية من ناحيتها أن وجود نظام حكم ديمقراطى منتخب فى مصر لا يعنى بالضرورة استمرارا لخصوصية علاقاتها مع حكام القاهرة خاصة فى مجال التعاون العسكرى والأمنى والاستخباراتى. وتمسكت واشنطن بأهمية مبدأ «الاستقرار» كإحدى أهم آليات تنفيذ أهداف سياستها الخارجية فى الشرق الأوسط، وتجاهلت حقيقة أن النظام المصرى السابق الحليف لم يكن نظاما ديمقراطيا، وتجاهلت تزويره للانتخابات، وتجاهلت انتهاكاته حقوق الإنسان، وتجاهلت اعتقالاته لآلاف المصريين بدون وجه حق.
•••
لم تستوعب واشنطن ما تعده صدمة نتائج أول انتخابات حرة فى التاريخ المصرى خلال عامى 2011 و2012 والتى نتج عنها فوز أحزاب سياسية ذات توجهات إسلامية مثل الإخوان والسلفيين. أظهرت الانتخابات الحرة أن حلفاء واشنطن التقليديين من ليبراليين وعلمانيين يصعب الاعتماد عليهم بسبب انكشاف حقيقة ضعفهم الشديد. وأظهرت نتائج الانتخابات أيضا أن ملايين الدولارات من أموال دافعى الضرائب، والتى أنفقتها المنظمات الأمريكية فى مصر خلال الأعوام الماضية لم تؤت ثمارها المرجوة. واشنطن أدعت فى العلن دعمها لعملية التحول الديمقراطى. إلا أنها تضع شروطا لهذا الدعم أهمها الحفاظ على الالتزامات المصرية تجاه إسرائيل، واستمرار التعاون الثنائى بين القاهرة وواشنطن فى المجلات العسكرية والأمنية. كما أن القلق الأمريكى يتعدى القلق على مصر، فالاستراتيجية الأمريكية فى الشرق الأوسط تستند الآن على تحالف متين مع إسرائيل وعلى علاقة خاصة مع المملكة السعودية. وجدير بالملاحظة أن كلا الدولتين، السعودية وإسرائيل، يريان فى تحقيق ديمقراطية مصرية حقيقية تهديدا حقيقيا لأمنهما القومى.
•••
وجاء وصف المرشح عبدالفتاح السيسى أثناء حملة الانتخابات الرئاسية العلاقات مع واشنطن بأنها علاقة استراتيجية مستقرة وثابتة، إضافة لتفهمه، كما ذكر، للمنطق الأمريكى فيما يتعلق بتجميد المساعدات العسكرية عقب أحداث الثالث من يوليو، لتعكس رغبة النظام الجديد فى مصر لعودة نمط العلاقات الذى جمع واشنطن بالرئيس مبارك. فى الوقت ذاته يمكن تفهم ما خرج على لسان أوباما فى كلمته المتعلقة بالسياسة الخارجية والتى ألقاها أمام كلية ويست بوينت العسكرية عشية بدء الانتخابات الرئاسية فى مصر «إننا نعترف بأن علاقتنا، فى بلدان مثل مصر، ترتكز على مصالح الأمن ــ من معاهدات السلام مع إسرائيل، إلى تقاسم الجهود المبذولة لمكافحة التطرف العنيف. لذا لم نقطع التعاون مع الحكومة الجديدة، ولكنه يمكننا وسوف نستمر فى الضغط من أجل تحقيق الإصلاحات التى يطالب بها الشعب المصرى».
ومع بدء فصل جديد من تاريخ الشرق الأوسط بظهور تنظيم داعش، لم يكن غريبا أن يقول جون كيرى، وزير الخارجية الأمريكى «إن مصر هى خط الدفاع الأول فى مواجهة إرهاب داعش». وتؤكد لنا هذه التطورات أن كل ما شهدته مصر من تغييرات دراماتيكية خلال السنوات الأربع الماضية لم تنجح فى خلخلة طبيعة العلاقات الخاصة التى جمعت الدولتين. ويتأكد كذلك عدم اكتراث واشنطن بما يحدث فى الداخل المصرى إلا بمقدار ما قد يتركه ذلك على دور مصر المتوقع فى التعامل مع أزمات الشرق الأوسط.