أتفهم تماما رغبة الدولة فى محاربة الشائعات والأكاذيب التى تغمر وسائل الإعلام، خصوصا التواصل الاجتماعى، لكن المشكلة ببساطة، أن الدولة وهى تفعل ذلك قد تقوم بدهس وسحق وقتل وسائل الاعلام الجادة والمحترمة والمهنية.
سأحاول قدر المستطاع أن أكون فى غاية الهدوء والوضوح والموضوعية، وأنا أناقش الآثار المنتظرة المترتبة على إصدار المجلس الأعلى للإعلام يوم الإثنين الماضى «للائحة الجزاءات والتدابير» التى يجوز توقيعها على الجهات الخاصة لأحكام قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الإعلى لتنظيم الإعلام، وذلك بعد نشرها فى الجريدة الرسمية عقب مراجعة مجلس الدولة لها.
العقوبات التى تقررها اللائحة للمخالفات ضخمة جدا، وتبدأ من خمسين ألف جنيه وتصل إلى نصف مليون جنيه، وفى إحدى الحالات مثل الملكية الفكرية تصل إلى خمسة ملايين جنيه. والأخطر أنها تعطى المجلس سلطات وصلاحيات فى منع بث أو نشر أو حجب المادة المخالفة أو الباب أو البرنامج أو الموقع أو وسيلة الإعلام لفترة مؤقتة أو دائمة، كما أنها تعطى رئيس المجلس الحق فى توقيع أو إلغاء الجزاء بمفرده.
قلت قبل ذلك وأكرر اليوم إننى لا أعترض بالمرة على أى إجراءات مشددة ضد المواقع المتطرفة والظلامية والإرهابية، طالما أنها فى إطار القانون، لكن الأهم ألا يتم استخدام هذا السيف، لذبح أو تكميم أو محاصرة الصحافة المصرية الجادة والمهنية.
وللأسف الشديد فإن هذه اللائحة تشبه إلى حد كبير قانون الطوارئ المطبق فى مصر منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضى، الذى يفترض أنه موجود لمحاربة الإرهابيين والمتطرفين، لكن الأكثر تضررا منه هو الأحزاب السياسية الرسمية ووسائل الإعلام الوطنية.
كانت حكومات مبارك المختلفة تقول إن القانون لن يمس الأحزاب والنقابات ووسائل الإعلام، لكن واقع الأمر أنه حاصر الجميع، فى حين أننا فوجئنا بالقوى المتطرفة والظلامية تستولى على السلطة عبر صناديق الانتخاب، لأن الحكومة لم تحاربها إلا ظاهريا فقط.
خوفى الحقيقى هو أن لائحة الجزاءات الأخيرة، ستقود إلى هذه النتيجة المفجعة، حتى لو كان أصحابها لا يقصدون ذلك.
يوم الخميس الماضى قرر المجلس الأعلى حجب موقع «المشهد» لمدة ستة شهور وتغريمه خمسين ألف جنيه بتهمة ارتكابه جرائم إعلامية والخوض فى الأعراض ونشر مواد إباحية، وهو الأمرر الذى ينفيه تماما الزميل مجدى شندى رئيس تحرير المشهد، ويؤكد أن القرار يأتى على خلفية تمسك «المشهد» بالقيم المهنية وحق النقد السياسى المباح وفقا للقانون والدستور. والأهم أنه أكد لى وجود ترخيص رسمى للموقع. أتمنى أن تكون أسباب الحجب واضحة ومحددة وليست عمومية مطاطة.
بعض الصحفيين يخشون أن يكون ما حدث للمشهد هو «ذبح القطة» حتى يتم تخويف وإرهاب كل من يفكر أن يعترض أو ينتقد الحكومة من قريب أو بعيد، لكن الأستاذ مكرم محمد أحمد، رئيس المجلس الأعلى للإعلام قال لـ«الشروق»: إن حجب «المشهد» قانونى، وإن الموقع نفسه غير قانونى وغير مرخص، وإن القرار قابل للطعن، وهو الأمر الذى ينفيه تماما مجدى شندى.
لائحة الجزاءات لن ترهب المواقع المتطرفة التى تبث الشائعات من الخارج؛ لأنها أساسا غير مرخصة وتتفنن فى التحايل على الحجب، لكن الأخطر أنها سوف تتحول سيفا مسلطا فوق وسائل الإعلام المصرية المهنية.
سوف يتردد أى صحفى فى كتابة أى خبر، وسف يتردد رؤساء الأقسام ومديرو ورؤساء التحرير فى نشر الكثير من الأخبار؛ لأنهم قد يقعون فى «كمين لائحة الجزاءات».
كل الصحف والفضائيات والمواقع الإلكترونية المصرية تعانى من أزمات اقتصادية حادة، وحينما يتم تغريم إحداها ربع أو نصف مليون جنيه فقد يتسبب فى إغلاقها.
سيرد علىَّ البعض ويقول: ولماذا تخشون من اللائحة إذا كنتم تمارسون المهنة بصورة قانونية؟!.
الإجابة ببساطة: أن العقوبات الطبيعية المفروضة على جرائم النشر تفترض فى الصحف والصحفيين «حسن النية»، وأنه حينما تخطئ، فإن ذلك من غير قصد.
التطبيق النصى والصارم للجزاءات على الصحفيين، سيجعل الجميع «يشترى دماغه وينفخ فى الزبادى بعد أن اتلسع من الشوربة»!
مرة أخرى، عاقبوا مروجى الشائعات بأشد العقوبات الممكنة، لكن احترسوا وأنتم تطبقون اللائحة، فربما تقتلون مهنة الصحافة والإعلام من الأساس. وحينما تحتاجون هذه المهنة لمواجهة الإرهابيين والمتطرفين، فلن تجدوها!.