اهتزت دوائر السياسة الخارجية الأمريكية على وطء تطورين دبلوماسيين عكسا دورا متصاعدا للصين على الساحة الدولية خلال الأيام الماضية.
التطور الأول عكسته صورة التقطت من العاصمة الصينية بكين حيث توسط ووانج يى، أكبر دبلوماسى صينى، بين أمين المجلس الأعلى للأمن القومى الإيرانى، على شمخانى، ومستشار الأمن القومى السعودى، مساعد بن محمد العيبان. والصورة الثانية جمعت الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ونظيره الصينى شى جين بينج فى موسكو.
مع الصورة الأولى تم الإعلان عن التوصل لاتفاق إعادة العلاقات الدبلوماسية السعودية الإيرانية المقطوعة منذ 2016، وأعلنا عن عزمهما إقامة علاقات دبلوماسية خلال أسابيع، وهو ما يمثل صفعة قوية على وجه واشنطن، ومع الصورة الثانية تم التأكيد على تعزيز التحالف بين بكين وموسكو ضد الغرب بزعامة الولايات المتحدة.
• • •
عكست الصورة الأولى دورا صاعدا متزايدا تلعبه الصين فى جنوب العالم وفى الشرق الأوسط تحديدا حيث تستورد الصين ما يقرب من نصف احتياجاتها من الطاقة من بترول وغاز فى المنطقة. ليس ذلك فحسب، فالشرق الأوسط يعد أكثر المناطق اعترافا بهيمنة النفوذ الأمريكى فيها لأسباب كثيرة. ولواشنطن وجود ثقافى وعسكرى وسياسى طاغ فى الخليج العربى، إلا أن اتخاذها موقفا عدائيا مستمرا من إيران لما يزيد على أربعين عاما كلفها ويكلفها الكثير من مصالحها المباشرة. ولم تنفذ إدارة جو بايدن تعهداتها بالعودة للاتفاق النووى الذى انسحب منه الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2018، وهو ما زاد من حدة الخلافات بين واشنطن وطهران.
كما انشغلت واشنطن وتحمست وهللت بمحاولة توسيع عمق ونطاق اتفاقات أبراهام للتطبيع بين دول لا تجمعها حدود أو تاريخ من المواجهات العسكرية مع إسرائيل. كذلك ركزت الولايات المتحدة جهودها على إنشاء بنية أمنية جديدة بالشرق الأوسط فى مواجهة ما تراه من تهديدات تشكلها الطائرات بدون طيار والصواريخ الإيرانية، فى نفس الوقت تحركت الصين بهدوء للتقريب بين أهم دولتين بالخليج؛ السعودية وإيران. وبجانب صدمة لعب الصين دورا محوريا فى مجال واشنطن الحيوى فى ظل منافسة قطبية عالمية بينهما، مَثّل القبول السعودى بالسعى لتحقيق مصالحها، ولو من بوابة الصين، صدمة للدوائر السياسية الواشنطونية التى تصورت محدودية الرؤية السعودية لدورها الإقليمى والعالمى تحت المظلة الأمريكية.
عبرت ردود فعل الخبراء والمراقبين الأمريكيين عن صدمة غير متوقعة، لدرجة استخدام بعضهم عبارات غير دبلوماسية لوصف ما جرى. وخلال زيارته للسعودية فى يوليو الماضى، أكد بايدن لزعماء الشرق الأوسط أن بلاده لن «تبتعد وتترك فراغا لكى تملأه الصين أو روسيا أو إيران».. إلا أن سردية بايدن لم تكن إلا تمنيات لا تمس الواقع المتغير بشدة فى الشرق الأوسط. ورفضت الرياض الاستجابة لمناشدات أمريكية بتأجيل قرار خفض إنتاج النفط لشهر آخر، وجاء الرفض السعودى حتى بعد قيام الرئيس بايدن بزيارة للسعودية ولقائه بولى العهد الأمير محمد بن سلمان، وهو ما اعتبره الأمريكيون نقطة بداية جديدة لعلاقات استراتيجية بين البلدين.
من ناحية أخرى، نما وجود الصين فى الشرق الأوسط بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة فى جميع مجالات الاقتصاد والدفاع والدبلوماسية ومظاهر القوة الناعمة. وترى بكين حاليا أن مصالحها بالشرق الأوسط تُخدم بشكل أفضل من خلال التركيز على التجارة والابتعاد عن الشئون الأمنية والسياسية. وهكذا نجحت بكين فى ضمان مكانتها كصديق مقرب وشريك موثوق به لاثنين من أكبر منتجى النفط فى العالم. وبالفعل أصبحت الصين الشرك التجارى الأول مع كل من السعودية وإيران، وكلتاهما دولتان حيويتان لمصالح الصين الاستراتيجية الخاصة ــ لا سيما حاجتها إلى مصادر موثوقة للنفط فى وقت تستورد فيه الصين النفط بوتيرة تبلغ حوالى 10 ملايين برميل يوميا، وفقا للبيانات الصينية الرسمية، وهو رقم من المتوقع أن يستمر فى الارتفاع خلال السنوات القادمة.
• • •
فى الصورة الثانية، أظهر الرئيس الصينى شى جين بينج، فى أول زيارة خارجية له بعد أيام قليلة من فوزه بولاية حكم ثالثة غير مسبوقة، قدرته على لعب دور صانع السلام فى واحدة من أكثر النزاعات العالمية أهمية فى الوقت الحاضر.
وامتدح الزعيمان، بوتين وشى، كلاهما البعض، وقال بوتين لشى جين بينج إن «الدولة الصينية صارت أقوى تحت إدارتكم»، مشيدا بمواقف بكين «المتوازنة فيما يخص القضايا الإقليمية والدولية».
من جهته، أكد الرئيس الصينى اهتمام بلاده بتطوير العلاقات مع روسيا «لأننا جيران وشركاء استراتيجيون»، مشيرا إلى أن البلدين «لديهما أهداف متشابهة ونعمل على تطوير العلاقات بيننا». وشدد الرئيس شى وقال إن روسيا «استطاعت تحقيق نجاح كبير فى تطوير الدولة، وشعبها يدعم رئيسه بقوة»، مشددا على ضرورة العمل المشترك «لتحقيق جميع الأهداف المتعلقة بالعدالة والمساواة فى العالم».
وسبق وقدمت الصين ورقة بيضاء تعكس أفكارا لوقف القتال وبدء عملية تفاوض بين موسكو وكييف، وهو ما قللت واشنطن من قيمته بادعاء أن المسار الوحيد للتهدئة يتمثل فى ضرورة الانسحاب الروسى الكامل من كل الأراضى الأوكرانية.
• • •
لم تفهم واشنطن ولم ترغب فى فهم لماذا لا توافق معظم دول الجنوب العالمى على فرض عقوبات على روسيا، ولا أتصور أن تفرض واشنطن عقوبات أليمة على الصين حال صحت الأنباء التى تشير إلى قرب إمداد بكين لموسكو بأسلحة فتاكة.
لدى الولايات المتحدة أسباب مفهومة لمعارضة الدور الصينى الدبلوماسى، إلا أن عالم الغد يختلف عن عالم الأمس، وتختلف الحسابات التقليدية عن الحسابات الاستراتيجية الجديدة. قد توفر واشنطن أحدث الأسلحة لحلفائها وشركائها، إلا أن الصين الذى أصبحت الشريك التجارى الأول لروسيا وإيران والسعودية ومن قبلهم أوكرانيا ذاتها، والآن بدأت بكين فى الكشف عن وجه دبلوماسى جديد لم يكن الغرب، وواشنطن تحديدا، على استعداد لمواجهته.
فى النهاية، وبكل المقاييس، الصين فقط هى الدولة الوحيدة التى تقترب من أن تكون منافسا نديا للولايات المتحدة. معارضة الصين هى واحدة من السياسات الخارجية القليلة التى تلقى دعما حقيقيا من الحزبين الديمقراطى والجمهورى داخل واشنطن. وبالنسبة لصناع السياسة فى الولايات المتحدة، سيكون السؤال فى المستقبل هو الاختيار من بين مجموعة من الخيارات الصعبة حول كيفية التعامل مع الصين ذات الذراع الدبلوماسية الطويلة.