أثار الغياب المفاجئ للرئيس الإيرانى الراحل «إبراهيم رئيسى» إثر سقوط المروحية التى كانت تقله مع وزير الخارجية وعدد آخر من كبار المسئولين الإيرانيين عائدين من منطقة الحدود الإيرانية الآذارية بعد افتتاح سد فى تلك المنطقة مع الرئيس الآذارى «إلهام علييف»، العديد من التكهنات لدى الكثير من المتابعين للشأن الإيرانى بشأن انعكاس ذلك على مستقبل النظام الإيرانى.
والجميع يعلم أنه فى النظام السياسى الإيرانى، ومنذ تأسيس النظام الحالى فى أعقاب انتصار ثورة فبراير 1979، وتولى الراحل آية الله الخمينى قيادة البلاد، عمد إلى إقامة شكل ما من أشكال التوازن بين العديد من مراكز القوة وصنع القرار فى الدولة، وذلك بالرغم من ضرورة الإقرار بأمرين. أما الأول فهو أن السلطة الأعلى والأوسع والأكثر سيطرة على الأمور وصنع القرار تكمن فى أيدى «المرشد»، وذلك منذ تبنى دستور الجمهورية الإسلامية فى عام 1979.
أما الأمر الثانى، فهو أن التعديلات المتتالية التى دخلت على الدستور الإيرانى، خاصة تلك التى تلت وفاة آية الله الخمينى، عمدت إلى تحقيق نتيجتين، أولاهما هى نقل بعض سلطات «المرشد» إلى مؤسسات أخرى فى النظام السياسى الإيرانى من منطلق أن الخمينى كان يمثل القيادة التاريخية للثورة، وبالتالى لا يجب لمن يتولى بعده منصب «المرشد» أن يتمتع بنفس سلطاته، وثانيهما أن تلك التعديلات عكست اتجاهًا لضمان ألا تنفرد مؤسسة واحدة فى الدولة بسلطات أكبر من المؤسسات الأخرى بهدف تحقيق قدر من التوازن فيما بين تلك المؤسسات من جهة وضمان ألا تطغى إحداهما على الباقين من جهة أخرى.
فالنظام السياسى الإيرانى، وعبر أربعة عقود ونصف، قام بزيادة المؤسسات التى لها نصيب فى عملية صنع القرار، سواء التشريعى أو القانونى أو السياسى أو الاقتصادى أو الاجتماعى أو الثقافى، كما أنه يتصف بأن هناك مؤسسات هى من الناحية الرسمية ليست تابعة للدولة، لكنها من الناحية الفعلية تدار بواسطة شخصيات يتم اختيارها من قبل «المرشد»، سواء بمفرده أو بالاشتراك مع أو بناء على توصية من مؤسسة أو أكثر من مؤسسات الدولة، وبالتالى يكون لها دور وتأثير فى عملية صنع القرار. وقد تم ذلك بالطبع بدون المساس بواقع وحقيقة أن سلطات «المرشد» تبقى هى الأهم والأخطر.
وبناء على ما تقدم فإن وفاة الرئيس «رئيسى» لن يكون لها تأثير جذرى على مستقبل النظام السياسى الإيرانى، لكن بالتأكيد فإن بعض الحسابات والتقديرات والترتيبات سوف تصاب بالارتباك نتيجة هذا الغياب المفاجئ لشخص رئيس الجمهورية والاضطرار إلى تنظيم انتخابات رئاسية تم بالفعل الإعلان عن تاريخ عقدها فى 28 يونيو 2024، أى فى حدود الخمسين يومًا من وفاة الرئيس حسبما نص عليه الدستور الإيرانى.
فقد شهد العام الجارى انتخابات لمجلس الخبراء المعنى باختيار المرشد القادم، آخذًا فى الاعتبار أن المرشد الحالى «خامنئى» يبلغ من العمر 85 عامًا، ومن ثم يتعين الاستعداد لاختيار من يخلفه فى أى وقت يرحل فيه عن دنيانا. ولم تكن انتخابات مجلس الخبراء تلك هينة، فقد تم السعى من قبل بعض الجهات فى الدولة، وهو ما بدا أيضًا أنه بدعم من المرشد الحالى، لاستبعاد العديد من المرشحين الذين ينتمون إلى تيارات تقدمية أو إصلاحية أو شبه ليبرالية أو معتدلة، داخل معسكر النظام الحالى وبمعاييره، بل وصل الأمر فى هذا السياق إلى استبعاد رئيس الجمهورية السابق حسن روحانى من الترشح فى تلك الانتخابات، وهو الذى كان معروفًا فى فترتى ولايته الرئاسية بتبنى سياسات تتراوح بين المعتدلة والإصلاحية.
وكان هناك اتجاه قوى، لأن يكون الرئيس الراحل هو خليفة المرشد الحالى عند وفاته، وذلك لعدة أسباب، وأول هذه الأسباب أن الرئيس الراحل هو أحد تلاميذ المرشد المقربين، والذين أمضوا سنوات طويلة فى التتلمذ على يديه وكونه من أتباعه ومريديه، أما السبب الثانى، فهو أن الرئيس الراحل ينتمى إلى نفس المعسكر المحافظ الذى ينتمى إليه المرشد، وبالتالى يحظى بدعم المؤسسات والتيارات والشخصيات التى تمثل ذلك التيار أو تدعمه، وثالث هذه الأسباب أنه يكون من السهل، بالقياس على السابقة الوحيدة فى تاريخ الجمهورية الإسلامية، أن يتم اختيار رئيس الجمهورية الموجود فى السلطة كخليفة للمرشد، حيث أن هذا هو عين ما حدث لدى وفاة الخمينى وتولى مكانه منصب «المرشد» خامنئى الذى كان آنذاك يشغل منصب رئيس الجمهورية. ويزداد هذا البعد وضوحًا إذا ما أخذنا فى الاعتبار أنه كان قد بقى عام فى ولاية «رئيسى» الرئاسية الأولى عام واحد، وكان من المنتظر أن يبقى ولاية أخرى، أخذا فى الاعتبار السوابق بالنسبة لرؤساء الجمهورية فى إيران منذ الثورة، باستثناء الرئيس الأول الدكتور أبوالحسن بنى صدر الذى عزله الخمينى بعد أقل من عامين من انقضاء فترة ولايته الرئاسية الأولى، والرئيس الثانى محمد على رجائى الذى تم اغتياله بعد أيام من انتخابه فى تفجير تبنته آنذاك منظمة «مجاهدى خلق إيران» المعارضة للنظام الإيرانى الحالى.
وبالتأكيد سوف تسعى القوى والتيارات المحافظة فى دوائر الحكم الإيرانى الآن بسرعة للبحث عن مرشح، أو أكثر، يصلح ليحل محل الرئيس الراحل، وإن كان البعض يشير إلى أنه فى هذه الوضعية الجديدة فالمرشح الأفضل هو "مجتبي" نجل المرشد الحالى، وهو أيضًا رجل دين ينتمى للمؤسسة الدينية الشيعية فى إيران، بينما آخرون يتخوفون من مثل ذلك الخيار باعتباره سوف يسن سنة جديدة فى حياة نظام الجمهورية الإسلامية قد تعد سابقة يعتد بها وتستخدم فى المستقبل، وهى توريث المناصب، مشيرين إلى أنه حتى آية الله الخمينى نفسه، بكل ما كان يحظى به من شعبية، لم يوص من بعده لأى من أبنائه أو أقاربه بأن يخلفه فى منصب المرشد.
ونأتى إلى مسألة أخرى ذات صلة ولا تنفصم عما تقدم ذكره، وهى كيفية ومدى نجاح النظام السياسى الإيرانى فى تعبئة وحشد قطاعات واسعة من الشعب الإيرانى، أو تحديدًا ممن لهم حق التصويت، للمشاركة فى الانتخابات الرئاسية القادمة التى ستجرى فى 28 يونيو 2024. فالأرقام الرسمية ذاتها تؤكد أن الانتخابات الرئاسية التى جرت فى عام 2021 وفاز فيها «إبراهيم رئيسى» بولايته الرئاسية الأولى كانت الأقل من حيث المشاركة الشعبية فى تاريخ كل الانتخابات الرئاسية منذ إنشاء الجمهورية الإسلامية فى عام 1979، بل كانت الوحيدة ضمن تلك الجولات الانتخابية الرئاسية التى قلت المشاركة فيها عن نسبة 50% ممن يحق لهم ممارسة حق الانتخاب والتصويت. وقد فسر البعض آنذاك تلك النسبة المتدنية بأنها تعود إلى حالة عزوف عن السياسة من جانب قطاعات متزايدة من الشعب الإيرانى، بينما نسبه البعض الآخر إلى ما اعتبروه ارتفاع نسبة التذمر من الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة، وذهب فريق ثالث إلى نسبتها إلى شعور قطاعات من الشعب الإيرانى من أن الدعم كان للمرشح المحافظ «رئيسى»، مما عنى بالنسبة لهؤلاء تراجعًا حتى عما اعتبروه إجراءات إصلاحية جزئية أو محدودة أدخلها الرئيس السابق حسن روحانى خلال فترتى ولايته الرئاسية.
وهكذا نرى أنه بالرغم من أن الوفاة المفاجئة للرئيس الإيرانى الراحل «إبراهيم رئيسى» لن تحدث فى حد ذاتها تغييرات تذكر فى النظام السياسى الإيرانى، فإنها سوف تؤثر على العديد من التطورات المقبلة الخاصة بذلك النظام، خاصة ما يتعلق باختيار المرشد القادم أو مدى المشاركة الشعبية فى الانتخابات الرئاسية المقرر له نهايات شهر يونيو من العام الجارى.