من عادتى أن أحصر الأرقام التى هاتفتنى ولم أرد عليها وأطلبها. جاءنى صوت أجش قلت له: تحت أمرك قال: كنا نحفر فى أرضنا الزراعية فخرج لنا كنز من الآثار معظمها من الذهب، وأنت أولى الناس بشرائه، قلت له: وهل تعرفوننى؟ قالوا: ناس معرفة دللنا عليك. قلت له: ــ أنا رجل بسيط وعادى جدا ولا أستطيع سوى شراء فرخة أو بطة وليس كيلو جرامات من الذهب، تصرف فى هذا الذهب كما تشاء، قال: لا، فقد بخسه التجار يريدون شراء الجرام بـ 300 جنيه، قلت له: أنت لم تتعب فى شىء، يكفى أنك ستحصل على عدة ملايين دون تعب، فأخذ يحاورنى ويداورنى وهو لا يعرف اسمى فحسمت الأمر معه قائلا: يا بنى هذه اللعبة بنفس الكلمات والسيناريو والإخراج منذ ثلاثين عاما لم تغير فيها حرف، سمعتها من قبل 30 سنة، وتتكرر كل عام تقريبا معى، وفى كل مرة إما فى المنيا أو الفيوم أو بنى سويف، يا بنى غير السيناريو، أو الحوار أو الإخراج مرة واحدة.
أزمة النصاب المصرى أنه مقلد حتى فى النصب والتزوير، لا يكلف نفسه حتى تطوير النصب والاحتيال ورغم ذلك ينجح فى النصب على الكثيرين.
حالات النصب والاحتيال فى المجتمع كثيرة، وكلما زاد الفقر وضعف الاقتصاد وغلت الأسعار وقلت التقوى وغابت الهداية من القلوب وتوارى الضمير وغاب المربون الصالحون كلما كثر النصب والاحتيال.
والغريب أن بعض المصريين يلدغون من جحر النصب الواحد مئات المرات، فهناك «مستريح» فى كل بلد يجمع الملايين ثم يهرب بعد ذلك تاركا الآلاف يندبون حظهم العاثر بعد ضياع تحويشة العمر.
أكثر المصريين لا يحبون من يصارحهم بالحقيقة ويجرون وراء الكسب السريع، هناك آلاف نصبوا على بعض المصريين فى موضوع «فيزا» السفر للخارج، وآلاف نصبوا عليهم واستلبوا أموالهم بحجة تسهيل دخولهم بعض الكليات، وضاعت الأموال، وهم لا يستطيعون الشكوى لأنهم بلا سند ولا دليل.
من يصدق أن مستريح «الأقصر» يجمع من الناس قرابة مليارى جنيه حتى إن بعض أهل القرى باع كل ما يملك من بقر وجاموس وأراضٍ وسيارات وأعطاها كلها للمستريح، فذلت هذه الأسر بعد عز، وفقدت كل ما تملك وأصبحت الآن فى كرب شديد.
أعرف أسرا ضاعت كل مدخراتها عند عدد من مستريحى الإسكندرية الذين يتعاقبون على النصب على البسطاء، كل عامين تنشق الأرض عنهم ليأكلوا أموال الناس بالباطل، ولكن الغريب أن هذا الأمر يأتى طواعية من تلقاء الناس، بل يذهب الناس إلى هؤلاء النصابين بأنفسهم وكأنهم يلحون عليهم، «نحن بحاجة أن تنصبوا علينا».
عاشرت كثيرا من المصريين فوجدت لديهم استعدادا فطريا أن يُخدعوا، وأتذكر ساعتها كلمة العبقرى العظيم الفاروق عمر بن الخطاب «لست بالخب ولا الخب يخدعنى» تأملت هذه العبارة الرائعة من فيلسوف كل العصور الفاروق عمر فوجدت أنه يصف الشخصية المثالية المطلوبة، فلا هو ماكر ولئيم، ولا الماكر يخدعه.
هل من المعقول أن يكون هناك فى كل محافظة نصاب كبير «مستريح» مثل الذى ظهر فى المحلة وسرق 40 مليونا، والخانكة وسرق 70 مليونا، المرج وكان يتلقى فى اليوم مليون جنيه ليعطى أرباحها وسرقها جميعا، الجيزة وجمع 20 مليونا، البحيرة وسرق نصف مليار، وطنطا وسرق 600 مليون، أما مستريح الموظفين بمدينة نصر فسرق مليار جنيه، وفى الإسكندرية ظهر عدة مستريحين أحدهم سرق 600 مليون، ودخلت النساء سباق النصب وظهرت عدة مستريحات «مساواة».
والأغرب فى الأمر أنك تجد النصاب أحيانا حاصلا على دبلوم أو إعدادية وينصب على حاصلين على ماجستير ودكتوراة.
حكى لى صديقى الحاصل على الدكتوراة فى الطب من الدانمارك أن عاملا فى المستشفى الخاص الذى يعمل به نصب عليه وعلى عشرات الأطباء الكبار مثله، وقص علىَّ كيف ينسج شباكه حول فريسته بطريقة عبقرية ويشعرك بأنه أوفى لك من ابنك وزوجتك، ويظل دقيقا فى دفع الأرباح لعام أو عامين لتجلب له المزيد من الزبائن حتى إذا حصل هذا العامل بالمستشفى على المبلغ الكبير الذى يهدف إليه فر ولم يجدوا له أثرا، والغريب أنهم لم يأخذوا عليه أى مستند، ويخرج براءة فى المحاكم، ثم يعيش فى بلد آخر سعيدا بما حصله من هؤلاء ليبدأ جولات أخرى.
أعتقد إلى حد ما أن الذى يقول الحقيقة والصدق مع الناس فى مصر غير محبوب وغير مرغوب فيه، أما الذى يخدع الناس وينصب عليهم فهؤلاء تجد الآلاف يقبلون عليهم ويسمعون لكلامهم.
وهذا من عجائب المجتمع المصرى، وقد لخص العبقرى عمر بن الخطاب أزمة مجتمعاتنا فى كلمته الرائعة «اللهم إليك أشكو جلد الفاجر وعجز التقى».