أصابت الصدمة كثيرين فاجأهم تطور جديد فى الحرب السورية. اختص التطور بقرية «كسب»، هذه القرية الأرمنية الواقعة فى قلب المنطقة المتاخمة للحدود التركية سكان القرية لا يتجاوزون المئات. أما تاريخها فقديم قدم المأساة، ولا أقول المحرقة، التى راح ضحيتها عشرات الألوف من الأرمن على أيدى الجيش التركى فى بداية الحرب العالمية الأولى.
تقول إحدى الروايات عن تطور معركة «كسب» إن حكومة أردوغان سمحت لقوات إسلامية متطرفة تمولها دول عربية خليجية بالعبور من تركيا وإثارة مشكلات للأرمن المقيمين فى سوريا. جاء فى الرواية أيضا أن حكومة دمشق لم تكن غائبة تماما عن هذه المعلومات قبل وقوع المعركة، وأنها ربما توقعت هذا التطور منذ اخترقت الطائرات التركية الأجواء السورية قبل الحادث بأيام فى تحدٍ واضح أو تعمية متعمدة. ولكن كان أهم وأخطر ما رواه الرواة، عن معرفة أو تخمين هو ما يتعلق بالدور الروسى. قيل إن روسيا أيضا كانت على علم مسبق، وربما كانت راضية عن نوايا تركيا. وفى رواية أخرى أنها فى الغالب باركت هذه النوايا.
•••
تخلص الرواية، مثل معظم روايات الحرب السورية، إلى أن حلفاء وأعداء اجتمعت مصالحهم فى لحظة ما وموقع معين على نية التنسيق لتغيير بعض الخطوط فى الخريطة السياسية، منتهزين جميعا فرصة انشغال المجتمع الدولى بالواقع الإنسانى الأليم فى سوريا، وبالشلل التام الذى أصاب مؤتمرات الحل والتسوية فى جنيف وخارجها. يدور الحديث عن أن أكثر من طرف وجد مصلحته فى ضرب عصفورين بحجر: تهجير الأقلية الأرمنية من سوريا إلى وطنها الأصلى فى أرمينيا، وتوطين جماعات سنية المذهب محلهم. هكذا تنفصل المناطق العلوية التركية التى يهددها استقرارها القلق والتوتر عن المناطق العلوية السورية التى تغلى بشهوة الثأر والانتقام.
•••
سمعت من ممثلين عن كل الأطراف المتهمة بالتواطؤ فى هذه الخطة الجهنمية إنكارا بعد إنكار عن تواطؤ حدث. ومع ذلك لم أسمع أحدا ينكر أن اعتداء وقع وأن هجرة جماعية وقعت فى أعقاب الاعتداء.
انتظرت رأى روسيا. وبالفعل جاء على لسان أحد كبار مفكريها من المتخصصين فى شئون الشرق العربى. لم ينكر وقوع تفاهم مسبق ولكنه لم يقر بوجود أهداف لم تعلن، أو حدود تتغير، أو تعديل فى ديموغرافية مناطق الحدود السورية التركية. كان منطقيا، ومتوقعا، أن ينتهز فيتالى ناعومكين فرصة انعقاد مؤتمر مخصص لمناقشة مستقبل الوضع القائم فى الشرق الأوسط، ليقدم التبرير المناسب للتدخل الروسى فى شبه جزيرة القرم، وليطرح وجهة نظره، التى لن تختلف كثيرا عن وجهة نظر الكرملين، فى الدور الجديد لروسيا فى الشرق الأوسط بشكل خاص.
قال إن تدخل روسيا فى أوكرانيا لانتزاع شبه جزيرة القرم من السيادة الأوكرانية، ما هو فى الحقيقة سوى «استعادة العدالة الدولية» بعد نصف قرن. قال إن القرم كانت روسية وعادت روسية. تاريخيا كانت القرم وهذا الجانب من شاطئ البحر الأسود تابعين للإمبراطورية الروسية. يسكنها ويسكن هذا الجانب من الشاطئ أغلبية روسية الأصل وليس فقط روسية اللسان.
•••
قد تكون روسيا استعادت العدالة الدولية بالنسبة لقضية لعلها الأهم استراتيجيا بالنسبة لأمن ومستقبل الاتحاد الروسى، ولكنها قبل أن تتمكن من استعادة القرم والعدالة الدولية المتصلة بها كانت قد قدمت للمجتمع الدولى، حسب فهمها وفهم الغرب، خدمة كبرى. كانت روسيا، بدون أدنى شك، وراء قبول حكومة دمشق تنفيذ قرار الاستغناء عن ترسانتها من الأسلحة الكيماوية.
هذا الإنجاز الروسى كان مبهرا بدون شوائب حتى بالنسبة لنا نحن المتشككين دائما فى نوايا الدول العظمى وأهدافها. ثم انكشفت الشوائب. يتردد الآن فى الصحف البريطانية أن طرفا أو أكثر صار واثقا من أن قوى مقاتلة مناهضة للحكم فى دمشق تدعمها حكومة أنقرة هى التى استخدمت غاز السيرين ضد قرى سورية. بمعنى آخر لم يعد مثبتا بشكل قاطع أن الحكومة السورية استخدمت السلاح الكيماوى ضد الشعب السورى.
المثير فى النقاش الدائر الآن، هو أن الروس كانوا يعرفون هذه الحقيقة ومع ذلك دخلوا فى مفاوضات لمساعدة الغرب على استصدار قرار إخلاء سوريا من السلاح الكيماوى. أوحت روسيا للغرب بأنها تتفق معه على إدانة النظام السورى، رغم أنها كانت واثقة من براءته. كان الهدف، كسب نقطة إيجابية لصالح موسكو فى سعيها نحو إبراز قدرتها على التأثير فى أوضاع فى الشرق الأوسط.
•••
تصر روسيا، ومن ورائها دول عديدة على أنه بدون جهودها، أى جهود روسيا، ما انطلقت مفاوضات جنيف حول الأزمة السورية. حاولت أطراف عربية، وحاولت أطراف غربية وتركية، وحاولت قوى فى المجتمع المدنى الدولى، والجامعة العربية والأمم المتحدة، حاولت جميعها جمع فصائل الاقتتال فى سوريا على مائدة مفاوضات وفشلت. تدخلت موسكو وضغطت فالتأم الشمل فى جنيف.
الواقع يقول إن لا شىء جوهريا تحقق بعد انعقاد دورتين من دورات السعى لحل سلمى فى جنيف. والروس متهمون بالتقاعس. الرد الروسى على هذا الاتهام جاهز. بل وكان مطروحا منذ الشهور الأولى لنشوب الثورة السورية، وهو من نقطتين: الأولى أن الواقع على أرض القتال غير مناسب لإجراء مفاوضات سياسية مباشرة ومفيدة، والثانية ألا تفاوض ممكنا قبل وقف نشاط الإرهابيين والمتشددين ومنع تسربهم عبر الحدود والكف عن مدهم بالمال والسلاح. هؤلاء، فى نظر روسيا، هم الخطر الذى يهدد روسيا وسوريا والغرب فى آن واحد.
•••
يستطيع الكرملين الزعم دائما بأنه أنجز إنجازا لا يريد الغرب الاعتراف به، وهو أنه بدوره «الساكت» فى المفاوضات التى استمرت شهورا عديدة بين الغرب من ناحية وإيران من ناحية أخرى حول قضية «النووى الإيرانى» ساعد فى تقدم هذه المفاوضات والوصول بها إلى ما وصلت إليه. حافظ على علاقاته بالغرب وفى الوقت نفسه حافظ على علاقته الطيبة مع إيران، العضو المتزايد الأهمية فى نظام «وسط آسيوى»، جاهز للنهوض والتأثير فيما حوله، وبخاصة بعد أن تنسحب القوات الأجنبية من أفغانستان.
•••
تحدث فيتالى ناعومكين بإيجاز، ولكن بحزم واضح، عن علاقة بلاده بكل من الصين ومصر. وصف علاقة بلاده بالصين بأنها لم تكن فى أى يوم من الأيام بالقوة والمتانة التى هى عليها الآن. لم يتحدث بالتفصيل عن الدعم المشترك المتبادل بين الدولتين فى جميع المحافل الدولية، أو عن تأييد الصين للتدخل الروسى فى شبه جزيرة القرم، وعن سياسات الدولتين تجاه عمليات التدخل الغربى فى شئونهما تحت عناوين الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات. أفهم ثناء ناعومكين على العلاقات الصينية الروسية بل ولا أتصور أننا سنسمع فى الشهور وربما السنوات القليلة المقبلة ما هو أقل من هذا الثناء يصدر عن المفكرين والمحللين فى البلدين. لا بديل للدولتين فى حال استمر حصار الغرب لروسيا والصين سوى التماسك والتعاون.
أما عن علاقة روسيا بمصر، فلم يخرج تعليقه عن التعليقات المعتادة التى تنشرها صحافة الغرب، وتبرزها عمدا أو من باب التمنى، أجهزة الإعلام المصرية. ومع ذلك مازالت موسكو تصر على أن ما توصل إليه الطرفان المصرى والروسى فى علاقتهما لا يمكن وصفه بالصفقة أو بالطفرة. روسيا، كما عاد فأكد فيتالى، لا تريد أن تكون الطرف الثالث فى علاقة ثنائية حميمة وتاريخية بين مصر وأمريكا، والكرملين لن يسمح بالانجرار نحو سلوكيات مزايدة أو مفاضلة. تعترف موسكو وتقر بأن لأمريكا كدولة عظمى مصالح مشروعة فى الشرق الأوسط، وروسيا تحترم هذه المصالح ولا تتدخل ضدها ولا تسعى إلى الإقلال من أهميتها ومن شأنها، لذلك تؤكد روسيا اعتزازها بتطور العلاقات المصرية الروسية نحو الأفضل، وترفض اعتبار هذا التطور صفقة بأهداف غير معلنة أو وراءها نوايا مناهضة للمصالح الأمريكية.
•••
أتصور أن موسكو، مثل غيرها من العواصم الكبرى، صارت مقتنعة بأن ما يحدث فى الشرق الأوسط يقع أغلبه تحت عنوان ارتدادات الربيع العربى، هذه الارتدادات متعددة ومتجددة، بمعنى أن لكل ارتداد تداعياته، ولن تهدأ المنطقة إلا بعد أن تفقد الارتدادات قوتها أو ينتهى مفعولها، أو تتحقق أهداف الربيع العربى.
لن يختفى الربيع العربى كما تأمل قوى ومؤسسات فى العالم العربى وخارجه. هنا أجد نفسى متفقا مع بعض المفكرين الروس، الذين يعتقدون، وبثقة قوية، أن الربيع العربى خرج من رحم العولمة. وسيبقى مربوطا بها، تدفعه ويدفعها. كلاهما لم ينهِ مهمته، ولم تتوقف مسيرته.