هذا هو الاسبوع الأول من شهر رمضان، وكل عام وانتم فى خير، ليأتى فى ظروف غريبة لم تألفها الأجيال منذ فترة طويلة للغاية، والشهر بالنسبة لكل جيل يختلف، لكن لاشك أن الشهر يعنى التعبد، وايضا البهحة، والخروج عن المألوف. وبالنسبة لنا نحن الجيل الذى كان طفلا فى الخميسنيات، كانت البهجة الرمضانية تتمثل فيما يتم من العروض المستمرة التى كانت تقام فى دور السينما الدرجة الثانى، وصيامك يعنى بامكانك رؤية ثلاثة افلام بشكل متتابع، وتتم اعادة الفيلم الأول مرتين، والأفلام نفسها تعاد مرة أخرى بعد صلاة العشاء حتى وقت السحور، وكانت السينما تعلن اسماء الأفلام المعروضة اسبوعيا، ما يعنى أننا فى سن الصبا كانت أمامنا الفرصة لمشاهدة تسعين فيلما متنوعا طوال الشهر فى سينما واحدة، علما أن هناك أكثر من قاعة تفعل الشىء نفسه.
وفيما بعد صارت المسلسلات هى التى تجدب الكبار للجلوس فى البيوت، فى اثنتين من القنوات، وتطورت الأمور فى سنوات القنوات الفضائية كثيرة العدد صارت خياتنا دراما فى دراما طوال الشهر الكريم.
بالنسبة لى فلم يشدنى التلفزيون، ولا الدراما ونجومها القادمون من السينما، وكلما جاء الشهر امتلأت حياة الناس بما يحبون، أما انا فأتجه فقط إلى السينما، وحتى الأمس فقط تصورت أننى قمت بحصر جميع الأفلام التى تدور أحداثها فى شهر رمضان، ولم اتصور أننى سوف أبدأ كتابة المقال الأول خلال الشهر الفضيل عن فيلم تدور أغلب احداثة فيه، انه فيلم كتب قصته، وأنتجه وكتب السيناريو والاخراج والتوزيع للممثل حسين صدقى باسم «معركة الحياة» انتاج عام 1950.
لم أكن قد شاهدت الفيلم أبدا لكن معلوماتى فى الأفلام ساقتنى انه واحد من افلام ايطالية مصرية كان يتم انتاجها بين البلدين قبل تأسيس شركة كوبرو فيلم بأكثر من عشر سنوات ليست انتاجا مشتركا بل هو اتفاق ان يكون هناك فيلمان واحد مصرى بالكامل ابطاله كلهم من المصريين، والقصة نفسها يتم انتاجها فى ايطاليا بطاقم من البلد، ولعل أشهر تجربة فى هذا الصدد هى فيلم «الصقر» لصلاح أبوسيف فى العام نفسه، بطولة عماد حمدي، وسامية جمال، أما النسخة الايطالية فهى من بطولة فيتوريو جاسمان، ولحسن الحظ فإننى أمتلك دفترى فيلم «معركة الحياة» العربى والايطالى، ضمن الوثائق النادرة للأفلام المصرية، بما لا يعرفه الكثيرون عن ظاهرة مهمة فى السينما، شارك فى بطولة فيلم «معركة الحياة» حسين صدقي، ومحمود المليجي، وممثلة ايطالية سميت فى النسخة المصرية نازك، وهى التى قامت بدور الفتاة الصماء فتحية، هذه الممثلة الايطالية اسمها ليليانا فلوريتى أما شخصية سميرة فقد جسدتها ايفا ديلا توريه، وتم تقديمها على أنها ستكون معبودة الجماهير، والأولى وهى الشخص الوحيد المشارك فى طبعتى الفيلم: المصرى والايطالى أما استيفان روستى فهو الممثل الوحيد الذذى شارك فى الفيلمين فى شخصية جودت، كما شاركت فى الفيلم أيضا سميحة توفيق، التى رأيناها فى دور سامية، وفى أول يوم من شهر رمضان تنطلق بسيارتها البويك فى شوارع ستانلى التى تؤدى إلى البحر، حيث حل الشهر فى ذلك العام خلال موسم التصييف، وهى تصدم الشاب أحمد الذى يجسده حسين صدقى، وتكون الاصابة خفيفة ونعرف انه صائم من كلامه، فهو يسامح الفتاة ويردد «اللهم انى صائم» أما شخصية حسين صدقى الذى كان يقوم بدور الشاب الملتزم فى أفلامه بهذا الفيلم يكون قد طوع الزمن فى ثلاثة من أفلامه لتدور أحداثها فى الشهر الكريم، أولها فيلم «العزيمة» لكمال سليم 1939، حين يصعد فى الليل مع جارته فاطمة إلى السطوح لمناجاة هلال شهر رمضان، الفيلم الثانى هو «معركة الحياة» كى يأتى الفيلم الثالث بعد عامين باسم «ليلة القدر» الذى عرضه مجددا باسم «الشيخ حسن» بعد أن تعرض للمنع بسبب رفض ضباط يوليو عرضه.
إذن فنحن أمام فيلم تدور احداثه الأولى فى شهر رمضان، ولم نكن كباحثين نعرف ذلك حتى كانت المصادفة، فالشاب المحامى هو الوحيد الذى يصوم فى البيت، وهو يعارض أخاه فيما يفعل، والغريب ان صدقى فى فيلمين له أشار أن البعض يشرب الخمر فى الشهر الكريم، الأول هو الشقيق الذى يجسده محمود المليحى فى «معركة الحياة» والثانى هو أبوه الذى يجسده عبدالوارث عسر فى « ليلة القدر».
لا يلبث شهر رمضان أن ينصرم فى أحداث الفيلم مثلما نرى قى الكثير من الأفلام المصرية، ومنها «فى بيتنا رجل»، و«الفانوس السحرى»، ومن الواضح هنا أن الشهر ليس خاصا بالاطفال، مثلما رأينا الصغار يغنون له فى فيلم «قلبى على ولدى، فالفيلم عن المحامى أحمد الذى صدمته الفتاة بعربتها، المحامى الذى يحاول أن يذكرنا دوما انه المؤمن الذى يصوم ويفترش سجادة الصلاة، وهو يتحدث إلى الفتاة البكماء فتحية، ويردد وهو يواسيها فى مصايها: «انت مسلمة.. انت مؤمنة» وهو رجل معتدل مستقيم يرفض اغراء المرأة التى هى بالمصادفة مخطوبة لأخيه الأصغر فاضل الذى يجسده محمود المليجي
ندخل بعد ذلك فى قصة الحب التى تتنامى بين المحامى والفتاة البكماء الحزينة فتحية، ابنة الرجل الضرير الذى يلجأ اليه كى يدبر له حقوقه فى الوظيفة التى يعمل بها، وتكون المصادفة الثانية أن فاضل هو الذى يرفض دفع التعويضات للضرير، هذا الرجل تصدمه سيارة، ويموت، ويبقى على المحامى مهمة رعاية فتحية التى تبدو أشبه بملاك طاهر، كما نرى فإن قصة حب سهلة تتولد بين الطرفين باعتبار أن احمد يعرف انها تحبه من مساعده الذى اكتشف من أوراقها حقيقة مشاعرها نحو أحمد، وهناك مصادفة ثالثة أن هذا المساعد ويجسده حسن فايق مغرم بدوره بفتحية، لكن الأمور تمر بسلام، وتبارك الأم الزواج
هذا الزواج بالطبع يؤرق سامية الفتاة الشريرة، وخطيبها فاضل الأخ الأكبر ومن الملاحظ أننا أمام فيلم نظيف من بين سينما تلك الفترة التى امتلأت بالراقصات والغوانى، انه العالم الذى يفضله حسين صدقي، فالفتاة فتحية تلجأ دوما إلى الدعاء، ونسمع صوتها تبتهل من خارج الكادر حتى المشهد الأخير، ولعلنا هنا امام واحد من أكثر افلام المخرج استشهادا بالنصوص الدينية، من خلال الآيات الكريمة التى تدعو إلى الاهتمام بالوالدين، بعد أن ماتت أم احمد عقب سفره خارج القاهرة فى مهمة عمل، وعلى طريقة فيلم «الشيخ حسن» فإن الشقيق فاضل يلجأ إلى شرب الخمر حدادا على والدته، وعلى طريقة اشرار السينما المصرية فإن فاضل حريص دوما على تنمية ثروته يريد المزيد، هو لا يشبع، من صفقة إلى أخرى، ووسط كل الأحداث وهوس فاضل للحصول على المال رغم النوبات الصحية، فإن سامية، لا تكف عن رمى شباكها حول شقيق زوجها، ويمر الزمن ويرزق كل زوجين بطفل، أحمد من ناحيته، وفاضل من زوجته سامية، وعندما يصير الابن عادل فى سن الخامسة فإن صحة فاضل تتدهور، لكنه لا يكف عن لملمة الصفقات.
والفيلم ينتقم من أشراره بالتدريج، فسامية هانم تعشق أيضا جودت بيه شريك زوجها، عندما أصاب المرض زوجها، انها تنتقل بين رجل وآخر بسهولة، ويهاجمها أحمد ويناديها باحترام شرع الله، ويزداد الصراع بعد وفاة فاضل، وهو الذى ترك الكثير من الأموال والاطيان، ليذكرنا المخرج ــ المؤلف دوما أننا أمام درس فى الأخلاق الحميدة على طريقة التعليمات التى كانت مكتوبة على الغلاف الخلفى لكراسات التلاميذ فى المدارس، ويكفى أن نشاهد أحمد وهو يلقى أيا من التعليمات فى أى مشهد، فهو يتكلم واقفا كأنه فوق منبر أمام حشد من الناس تتكلم حنجرته فى المقام الأول، وبسبب هذا السلوك فإن أحمد يحصل على جزائه، ويصبح سفيرا لبلاده فى لندن.
يكشف الفيلم عن العنصرية الشديدة، وسوء أخلاق المجتمع فى تلك السنوات فقد كان المجتمع يتعامل مع من نسميهم اليوم بذوى الاحتياجات الخاصة بالمعايرة، وقد عانت فتحية هنا من الألفاظ التى تتردد حولها بأنها خرساء ما يدفعها بمنطق الغيرة أيضا إلى مغادرة المنزل وتترك ابنها وزوجها فى البيت حيث تعيش معه سامية التى ترمى عليه شباكها وأيضا بمكائدها ضدها.
لاشك أن المشاهدين تحملوا الممثل غير الموهوب حسين صدقى لأكثر من ربع قرن ابتداء من 1936 حتى بداية الستينيات، وكان بطلا لأهم فيلم مصرى، كما ان من حقه أن يقوم بالانتاج والاخراج طالما انه يمتلك المال، لكن ما لا يغتفر له هو اصراره على تأليف افلامه كمنتج، ومنها أفلام أخرى مثل «يسقط الاستعمار» و«آدم وحواء» و«المصرى أفندى»، وهى قصص لا يكتبها أطفال صغار ترتبك فيها الحبكات، تبدو المواقف التى وضع فيها أبطاله ساذجة، لا يعرف كيف يخرجهم منها.
أما النقطة البالغة الأهمية فى الفيلم فهى وجود الطفل الممثل سليمان الجندى فى بداياته، كان فى الخامسة من العمر، إنه واحد من افلامه الأولى، وكان له شقيق يشبهه كثيرا شاركه أفلامه الأولى، مثل «الايمان» قبل أن يفارق الحياة سليمان هو بلا منازع أهم طفل ممثل فى السينما المصرية، وقد استفاد منه المخرجون خاصة صلاح ابو سيف، فى «ريا وسكينة» و«الاسطى حسن» و«الوحش» و«شباب امرأة»، وايضا نيازى ممصطفى فى «رصيف نمرة 5» و«فتوات الحسينية»، وفيما بعد عمل مع عاطف سالم ويوسف شاهين ليكون هو الطفل الوحيد الذى ظهر مع كل هذه الأسماء ليمثل ظاهرة لم تتكرر أبدا، والطريف هنا أن حسين صدقى هو أول من قدمه فى فيلمه التالي «الايمان»، كان اخوه معه ويجب تقديم الممثل من فترة لأخرى، وخاصة فى فيلم «بور سعيد» و«جميلة» وهى أدوار وطنية لا تنسى، وبشكل عام فإن حضوره الجيد لا يعرف الاستنثناء، ويجب رؤيته مع محمود المليحى في «نحن بشر» و«المجرم».