هذه كلمات كتبتها منذ أكثر من عشر سنوات وجعلتها فى ختام كتابى «الحاكمية.. رؤية شرعية ونظرة واقعية» وهو أقوى وأفضل كتبى على الإطلاق.. وهأنذا أسرد لكم منه صفحتين فقط وأترك لكم الحكم على أهميتها:
قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم.. وتدعون لهم ويدعون لكم».
إنها صورة لمجتمع يسوده الحب والوئام والتواصل مع الحكام.. وفى مقابلها صورة لمجتمع آخر تحرقه العداوة والخصام واللعنة بين الأقوام
صورة لمجتمع تسوده المحبة بين الحاكم والمحكوم.. فالحاكم فيه كالأم الرءوم والأب الرحيم.. والرعية هى الابن البار.. والصديق الحميم الذى يقابل أباه حبا بحب.. ويبادل صديقه صفاء بصفاء.. فالأب يحب أولاده.. يحرص عليهم ويسهر لراحتهم ويتعب لإسعادهم فهو يحبهم ويدعو لهم.. والأبناء يحفظون المعروف ويبادلونه بالإحسان إحسانا.. ويقابلون العطاء بالعرفان والإنعام بالوفاء.. فهم أحرار و«الحر يراعى وداد لحظة وينتمى لمن أفاده لفظة».
فكم أفاده لفظات وكم أعطاه من عمره لحظات بل سنوات.. وكم ناله منه من دعوات فهو محل إحسانه ومهبط عطائه ومنزل إنعامه.
إنه مجتمع المحبة التى تحمل الرعية أن تحوط الراعى بحبها وتكلؤه بعينها وتحميه بمهجها وتغذيه من دمائها وتدفع عنه بصدورها.. وترعاه أبدا بنصحها وترى ذلك حقا عليها «وأن تنصحوا من ولاه الله أمركم».. فلا يهدأ لها بال ولا تقر لها عين ولا تطيب نفسا إلا وهى تبذل للراعى نصحها وتسقيه من ينبوع أمنها وتسبغ عليه لباس أمانها.
فينام الراعى آمنا لا يخشى على نفسه بأسا فتحرسه رعيته بنفسها.. وتحرسه من نفسها وغيرها.. بل تحرسه فى نفسها فلا تورده موارد السوء والهلكة.
وفى هذا المجتمع النظيف المفعم بالمحبة الملىء بالصدق المنسوج من الشفافية المدعوم بالولاء بين المرء ونفسه وبين المرء وغيره لا يجد الكيد له موطنا ولا تبصر العداوة أمامها طريقا ولا تقف الشحناء على أرض ولا ترى المؤامرات لها إمارة تأتمر بها ولا متنفسا تنفث فيه سمومها.
فقد أحبت الرعية راعيها فأحبها وصفت لراعيها فصفى لها.. ونصحت الرعية لراعيها فانتصح بنصحها وقامت تدعو له فدعا لها.
أمنها فأمنته.. وحفظها فحفظته.. وأكرمها فأكرمته.. ودعاها فلبته.. تحركت الرعية كما تشاء فحماها الراعى بما يملك
نادته فأحسنت النداء فانتفض يحدوه الفداء.. سمع بكاء الصغار فقام يهدهد قلوبهم.. يمسح بيده دموعهم.. يربت على أكتافهم.. يحمل لهم ولا يحمل عليهم.. أضحكهم فما أبكاهم.. وأراحهم وما أضناهم.
فارتاحت النفوس وانشرحت الصدور وانفرجت الأسارير وخف الحمل عن الكواهل والظهور وحقنت الدماء وعصمت الأموال وحفظت الكرامة ورشد الفكر وتوقد الذهن ونشط العقل وسلمت الطرقات وعمت الخيرات ونزلت البركات ورتلت الآيات.
إنها صورة للراعى الذى تحبه رعيته يدعو له الناس ويدعو هو للناس.. يحميها ولا يقتلها ويقاتل من أمامها «فالإمام جُنَّة يقاتل من ورائه ويتقى به».. كما ورد فى الحديث الشريف.
فهو فئة من لا فئة له.. وولى من لا ولى له.. لا يعصى فى طاعة تتوحد عليه القلوب وتجتمع وراءه الصفوف وتبذل له الأموال ويستجيب له الرجال.. فيحدد لهم الهدف ويرسم لهم الخطط ويوضح لهم الوسائل ويتابع معهم الأعمال ويجنى بهم الثمار فإن وجد حسنة مدحها أو خلة سدها.
حريص عليهم ورحيم بهم.. يفرض العطاء للشيخ الكبير والطفل الصغير ويبذل الخير لرعاياه وللغير بل لأسراب الطير.. فيحيى كل يوم سنة ويميت بدعة.. ويؤمن رعيته كلها دون استثناء ويقوى الأمة ويعلى شأن الإسلام والأوطان
بكاء الثكالى يحرق قلبه وأنات المرضى تهد قوته وتلوى الجياع يقلق مضجعه وعرى العراة يمزق نفسه وتهدم بيت لأحد رعيته بمثابة هدم لبنيانه وراحته.
يأوى إليه الطريد ويهتدى به الحائر ويأنس به الغريب ويطمع فيه الفقير ويحفظ قدره الكبير.. إنها روح المحبة والثقة التى تولد البذل والأمن والتفانى من الجميع وللجميع. هذه صورة العلاقة بين الحاكم والمحكوم التى رسمها رسول الله عبر هذا الجزء من حديثه الشريف العظيم والتى ضاعت وذهبت أدراج الرياح منذ زمن طويل.