فى الرحلات فوائد كثيرة. أهم الفوائد فى رأيى هى أن المسافر يستطيع أن يكتشف القيمة الحقيقية لنفسه وأمته وبلده. هناك، فى هذا البلد أو ذاك، وبعيدا عن مؤثرات معينة سوف يجد فرصة لإعادة تقييم سلوكياته الشخصية فيهذبها أو يؤكدها، وفرصة أخرى ليتعرف عن قرب على المعنى العميق لعبارة «أم الدنيا». سمعت فى رحلاتى مصريات ومصريين يصفون بالهمس إيطاليا أو فرنسا بأنها أم الدنيا وفى الوقت نفسه يحنون للعودة إلى مصر ولو لأيام قليلة. الرحلات أيضا تتيح الفرصة ليتدرب الإنسان على إرضاء رغباته بأساليب متنوعة فيزداد هو استمتاعا بها وتزداد الرغبات ثراء وعمقا. هذا الموضوع تحديدا، وأقصد علاقة الإنسان برغباته، يستحق اهتمامى واهتمام زملائى فى الكتابة، وأظن أننى سوف أوليه حقه فى الوقت المناسب.
***
أثار انتباهى فى أمريكا عزوف الناس عن التصافح بالأيدى. أنا المقبل من بلاد تكاد تقدس التلامس بكل أنواعه وليس فقط المصافحة بالأيدى، حتى بتنا نشعر أن المصافحة وحدها تبدو نوعا من التحية الباردة إذا لم يسبقها أو يلحق بها حضن وأحيانا قبلات على الوجنات. سألت وقرأت حتى عرفت أنه من غير المستحب فى أمريكا أن «تلمس» أحدا وأنت تتحدث إليه. لا تمسك بذراعه وذراعها أو تربت على كتفه وكتفها أو تضع يدك على ظهره وظهرها. بل إن بعض الأمريكيين قد يعتبر اللمس المتعمد اعتداء على حرمة الجسد وخصوصية الإنسان تماما كالاعتداء على أراضيه وممتلكاته الخاصة.
***
رحت بعدها أقارن بين سلوكيات التلامس عند شعوب عشت بينها. لن أتحدث عن مصر فكلنا يعرف أننا جعلنا للتلامس عند اللقاء وظيفة اجتماعية ولدى قلة من الناس خيارا جنسيا، ولكنى سوف أتحدث عن الهنود الذين اختاروا أن تكون التحية من على بعد أمتار فلا تمتد اليدان نحو جسم الطرف الآخر وإنما تجتمعان مصحوبتان بحركة من الرأس. كذلك فى اليابان لا يتلامس الناس بالمصافحة اليدوية، بل ينحنون فى احترام وتقدير، وباليد اليمنى يقدمون للزائر أو الغريب بطاقة زيارة. هكذا الأمر حسب ملاحظاتى فى معظم أنحاء جنوب آسيا، فى سريلانكا وكمبوديا وتايلاند وبورما. الناس هناك لا يتصافحون عادة باليد ولا يتلامسون عند التلاقى أو وهم يتحادثون.
***
يحدث العكس فى الشرق الأوسط، حيث يعيش عرب وغير عرب. هنا التلامس بكافة صوره وأنواعه، هنا الأحضان والتقبيل بالشفاه أو الأنوف والاحتفاظ بالأيادى لفترة بعد المصافحة، هى من الممارسات العادية تعبيرا عن كرم الضيافة ودفء العلاقة والسعادة باللقاء، أو لا تكون شيئا من هذا بل هى من قبيل السلوكيات والعادات ولا تحمل معانى خاصة.
أعجبنى فى السودان أن غالبية الناس يحاولون تجنب المصافحة باليد واستبدالها بلمس الكتف وليس تقبيله كالحال فى دول الخليج. وفى جنوب أوروبا وكل مجتمعات أمريكا اللاتينية لا يتوقف الناس عن تحية بعضهم بعضا باللمس حتى بعد المصافحة وتبادل القبلات والأحضان، نراهم فى أمريكا اللاتينية يتلامسون على مائدة الطعام، وفى قاعات الدرس بالمدارس والجامعات وفى الحافلات وغيرها من وسائل النقل، ولن يكون غريبا رؤية شخص يأكل بيد ويده الأخرى ممسكة بذراع جاره أو جارته. يجدر بى قبل أن انتهى من موضوع التلامس أن أشير بسرعة إلى التبرير التاريخى لابتكار عادة المصافحة اليدوية. يقال إن الإنسان البدائى كان يشترط على جاره أن يمد يده إليه مبسوطة كلما التقاه خشية أن يكون ممسكا بآلة حادة يخفيها وراء ظهره ليطعنه بها.
* * *
ينقلنى التلامس إلى سلوك آخر فى الولايات المتحدة تعاملت معه بالحرص الشديد خلال زياراتى المتعددة. هناك تعلمت أنه إذا دخلت مصعدا ووجدت شخصا رجلا أو امرأة، وفى يدها أو بيده باقة زهور، فمن واجبى أن اسأل وأهنئ وأتمنى الخير والسعادة. لابد من أن اتبادل مع ركاب المصعد كلمات قليلة. يسمونه الكلام الصغير. الأمريكيون على عكس الشائع عن شخصية «الأمريكى الوقح» ودودون فى أكثريتهم. وعلى كل حال إن كنت من الملتزم سلوكيات باردة فما عليك إلا أن تهز برأسك عند ولوج المصعد والخروج منه.
قرأت تفسيرا قريبا لظاهره حميمية العلاقة فى المصاعد الأمريكية، وإن تضمن مبالغة معهودة، يقول الكاتب الهولندى Lindstrom فى كتابه بعنوان معلومات صغيرة Small Data، أن هذه الرغبة فى التواصل بين الأمريكيين تعكس الحاجة الدائمة لمجتمع متعدد الأعراق إلى التعارف، وباعتبار أن الناس هناك كثيرو التنقل جغرافيا أو من أصول مهاجرة فإنهم يحنون إلى كل ما من شأنه أن يحقق التقارب والتواصل بينهم.
* * *
هذا التفسير لا يبرر، على كل حال، نصيحة تلقيتها من صديقة عربية عاشت معظم سنوات حياتها فى أمريكا. نصحتنى بتحية أى كلب أقابله فى المصعد أو فى المطعم أو يتصادف دخوله إلى المكان وقد سبقته إليه. ستكون تحيتى للكلب موضع تقدير كبير وود عظيم من جانب صاحبه ومن باقى الحضور. شعرت بهذا التقدير الأمريكى لجنس الكلاب خلال هذه الرحلة أكثر مما شعرت به فى رحلات سابقة. شعرت به خلال الأسبوع الذى قضيت أغلبه سائحا فى شوارع نيويورك، وشعرت به مضاعفا فى المدينة الصغيرة الراقدة فى السفوح. هناك على طريق ضيق على ضفاف النهر أعدته البلدية للمتريضات والمتريضين كنت أجلس صباح كل يوم مع كوب قهوتى والصحيفة الورقية الوحيدة فى المدينة. كنت أجلس على أريكة خشبية لا تقل أناقة عن قرينتها فى نيويورك. هنا على يمينها وعاء من معدن لامع به ماء رقراق وعلى يسار الأريكة وعاء مماثل. انتشرت الأرائك على امتداد الطريق بطول لا يقل عن ثلاثة أميال ومع الأرائك انتشرت أوعية الماء الصافى والمتجدد دائما تقف عندها الكلاب لترتوى فى سعادة لا تخفى.
***
أظن أننى لم ألتق فى حياتى بهذا العدد من الكلاب الأنيقة فى فترة هكذا وجيزة، وأؤكد أننى لم ألق بهذا الكم من التحيات لبشر أو غير بشر مثلما فعلت خلال تلك الساعات المعدودة التى قضيتها على ضفاف نهر الويلاميت Willamette.