فهم الناس من متابعة أعمال القمة التى انعقدت فى الرياض وخلاصة ما قيل فيها وعنها من تصريحات وتحليلات مبكرة أن الحكومات الاسلامية التى حضرت المؤتمر فوضت الرئيس الأمريكى وضع استراتيجية لمكافحة الارهاب وتنفيذها. فهموا أيضا أن الرئيس الأمريكى استطاع بمهارة فائقة أن يعود من الزيارة بصفقة هى صفقة العمر بالنسبة له وصفقة القرن بالنسبة للولايات المتحدة، أخذ لأمريكا الكثير دون أن يحملها فى المقابل التزاما تنوء به.
تحيط بالتزام الرئيس دونالد ترامب تجاه هذا العدد الكبير من الزعماء ــ حوالى ربع حكام العالم ــ اعتبارات عديدة كانت محل نقاش وجدل بين المحللين الأجانب. فالرئيس ترامب قبل تفويضا، وهو لا يزال فى الشهور الأولى من ولايته، وبخبرة ضئيلة فى صنع وممارسة السياسة، وبوجه خاص السياسة الخارجية. يقلل من أهمية هذا التحفظ أن الرئاسة الأمريكية كان لديها المساحة الزمنية الكافية للاستعداد لهذا المؤتمر. لم يكن الرئيس وحده حين اتخذ قرار تشجيع الدولة أو الدول المضيفة على عقد مؤتمر بهذا الحجم ولهذا الغرض. كان إلى جانبه عائلته وبخاصة إيفانكا وزوجها ولكن كان هناك أيضا جهاز المستشارين العسكريين. ثم أنه استطاع بذكاء وقبل وقت كاف من تاريخ انعقاد المؤتمر تجميد نشاط المستشارين المتشددين والممعنين فى كراهيتهم للإسلام والمسلمين، هؤلاء الذين تسببوا فى ارتكابه أخطاء لا تزال تطارده، ومنها الأوامر الرئاسية التى أصدرها ضد دخول رعايا دول إسلامية معينة الولايات المتحدة وأوامر أخرى فى شأن التعامل مع مهاجرين ومقيمين مسلمين.
كثيرون، وأنا منهم، نجد فى التنبؤ بسلوك السيد ترامب فى موقف أو أثناء أزمة متعة، تماما كمتعة الرهان على سلوكه أثناء استقباله أو توديعه ضيفا أجنبيا. شاهدناه مرة غافلا أو متغافلا عن مد يده للترحيب بضيف وشاهدناه مرارا يتعمد تكرار مصافحة ضيف آخر. مثل هذه التصرفات تتسبب أحيانا فى حيرة مراسلى الصحف ومشاهدى الأنباء، أو تدفع بعضهم إلى تشكيل آراء متسرعة أو بذل جهد مضاعف بحثا عن قصة أو خلاف. المؤكد أنه يحب أن يعرف الآخرون، سواء كانوا مسئولين دوليين أو أطراف فى صفقات تجارية أو صحفيين، أنه من الناس الذين يغيرون رأيهم ويبدلون مواقفهم كثيرا. رأيناه متقلب المزاج وسريع الغضب ورد الفعل. شاهدناه هائجا كالثور فى انفعالاته، مجاملا بالمبالغة أحيانا مع بعض الزعماء. كثيرون وصفهم بأنهم خارقون للعادة وكانوا فى نظره قبل يوم واحد سيئين وفاشلين أو من الذين انشغلوا بابتزاز أمريكا.
لا شك لدى أكثر مستشاريه، وعائلته كما سمعت، فى أن سرعة انفعاله ومزاجه المتقلب قد يتسببان يوما فى أزمة دبلوماسية أو يرتبان على الولايات المتحدة التزامات غير مدروسة. لذلك حرص البعض منهم على تلقينه المعلومات الصحيحة أو الحقيقية والإحاطة به ومتابعة ما ينطق به. لذلك لم أفاجأ بالتزامه الحريص إلقاء خطابه فى مؤتمر الرياض معتمدا على نص مكتوب لم يخرج عنه مرة واحدة. لعلها المرة الثانية التى يلتزم فيها القراءة من نص مكتوب بعد خطاب القسم يوم «تتويجه» رئيسا للولايات المتحدة. هذا الالتزام يدفعنى إلى الاعتقاد بأنه بدأ متدرجا يخضع لتوصيات المقربين له. ومن ملاحظتى لتصرفاته «الجسمانية» والكلامية خلال المؤتمر أستطيع القول بأنه أفلح فى التحكم فى كثير من انفعالاته وفى ضبط ردود الفعل رغم أنه كان تحت ضغط نفسى شديد نتيجة التطورات والتحقيقات الجارية فى واشنطن حول قضية الاتصالات بروسيا وفصل رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالية. أتوقع أن تستمر مراقبته من جانب الدائرة الضيقة المحيطة به أثناء اجتماعات القوى الصناعية الكبرى وحلف الناتو خشية أن يندفع فى الرد بعنف وتهور على ما قد يعتبره إساءة إلى أمريكا. إذ معروف عنه، وعن غيره من الزعماء الشعبويين، اعتناق نوع من الوطنية العاطفية البسيطة والميل إلى إشهارها فى المناسبات والمحافل. يلخص هذا النوع من الوطنية عبارة «أمريكا أولا» التى رفعها شعارا لحملته الانتخابية وخاتمة لتصريحاته وخطبه.
*****
لم أتوقع أن يطلب أحد من القادة المدعوين للقمة إرسال قوات أمريكية للدفاع عن بلاده ضد الارهابيين. ولم يعرض الرئيس. أتفهم الامتناع عن الطلب والامتناع عن العرض. الكل، ضيوف ومضيفون، يعلمون حق العلم أن ما منع أوباما عن ارسال قوات أمريكية إلا نادرا إلى مناطق توتر ما زال يمنع ترامب عن ارسالها. لا يجوز أن ننسى أن أمريكا مهووسة، إن صح التعبير، بهاجس هزائمها أو نكساتها العسكرية العديدة فى منطقة الشرق الأوسط على امتداد نصف قرن أو ما يزيد. أمريكا، نخبة وجيشا، تتذكر نكسة المارينز فى بيروت عام 1983 وقصف البارجة ستورك فى المياه الدولية قرب لبنان فى 1993 ومعركة مقديشيو فى الصومال فى 1994 والهجوم على المجمع السكنى فى الرياض عام 1996 والاعتداء المسلح على القنصلية الأمريكية فى بنغازى فى 2014 مرورا بحربين، حرب «العمر الممتد» فى افغانستان وحرب «العار» فى العراق. هذه النكسات العسكرية ونكسات سياسية غير قليلة تشكل ضغطا وقيدا على الرئيس الأمريكى، ويعرفهما المسئولون عن صنع السياسة الخارجية فى مختلف أنحاء العالم وبخاصة فى الدول الأعضاء فى حلف الناتو.
لم يخالجنى أدنى شك على امتداد مشاهدتى أحداث زيارة الرئيس الأمريكى بما فيها القمة فى أن الرئيس كان يغالب توترا طاغيا إلى جانب علامات فروق الوقت بين الرياض وواشنطن البادية على وجهه. أما التوتر فلا بد، إن صح وجوده، أن يكون بسبب الأزمة المتفاقمة فى واشنطن بين البيت الابيض من ناحية و أجهزة الإعلام والكونجرس بمجلسيه ووزارة الداخلية والسلطة القضائية من ناحية أخرى. نقص خبرة الرئيس السياسية وتقلب مزاجه وضعف تحكمه فى أحاديثه عناصر مسئولة عن جوانب عديدة فى هذه الأزمة.
كذلك فقد ورث الرئيس ترامب مجتمعا سياسيا منقسما على ذاته عديد الانقسامات. بعض هذه الانقسامات يعود إلى انغماسه فى العولمة بدرجات أحيانا متطرفة، يعود أيضا إلى شعور متفاقم فى دوائر أكاديمية وسياسية بانحدار مكانة أمريكا فى الخارج وباتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وبخاصة فى أعقاب الأزمة المصرفية قبيل تولى أوباما منصب الرئاسة. إلا أن أحدا لا ينكر دور المرشح دونالد ترامب نفسه فى زيادة هذه الانقسامات عددا وعمقا عندما أصر على طرح قضايا اجتماعية مثيرة للخلاف والشقاق مثل مكانة المرأة وأحوال الأقلية السوداء والمهاجرين من المكسيك وأمريكا الوسطى والموقف من التعليم والثقافة والفنون، وخطاباته الملتهبة ضد «الاسلام الراديكالى» والدول الاسلامية.
هذه وغيرها من الانقسامات والأزمات الداخلية تركت علاماتها على وجه وتصرفات الرئيس الأمريكى فى بداية رحلته فى الشرق الأوسط وأوروبا الغربية. حاول كعادته إلقاء تبعة هذه الانقسامات والمشكلات على الرئيس السابق باراك أوباما. أوباما فى نظر ترامب وجماعته وعدد لا بأس به من الحكام الذين قابلهم فى رحلته الإسلامية والإسرائيلية والأوروبية أخطأ فى ثلاث: أخطأ عندما تجاهل مخاوف وشكوك حلفاء أمريكا التقليديين فى الشرق الأوسط، وبخاصة الحلفاء العرب والاسرائيليين وعقد اتفاقا مع إيران، ثم ذهب إلى أبعد حين انتقد علنا سياساتهم الداخلية و أدان أساليب تعاملهم مع المعارضة. بذلك انتقص، حسب رأيهم، من صدقية أمريكا وأساء إلى نفوذها فى المنطقة.
أخطأ ثانيا حين شجع روسيا على اختراق الشرق الأوسط بالنفوذ والسلاح والاتفاقيات الاقتصادية والاحلاف المرنة. هذا الشرق الأوسط الذى كان أحد أهم ركائز الاستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة. الآن لا يمكن لترامب أو غيره من الذين سوف يأتون بعده زحزحة روسيا من مواقعها الجديدة فى الشرق الأوسط وفك أواصر علاقاتها بدول وقوى إقليمية إلا بتكلفة عالية. هكذا قد يبرر أنصار الرئيس ترامب مساعيه الشخصية ومساعى حملته الانتخابية وحكومته الراهنة لتأسيس علاقة مختلفة مع الرئيس فلاديمير بوتين تسمح لهما بتجاوز أنشطة أنصار الحرب الباردة المؤثرة سلبا على العلاقات بين البلدين، وتشجعهما على بناء نظام عالمى جديد.
أخطأ ثالثا عندما سمح لإيران بالعودة عضوا فاعلا فى النظام الدولى مضحيا بالتحالف التقليدى بين الولايات المتحدة والدول العربية من ناحية وبين الولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية أخرى. تؤكد اسرائيل مرة بعد الأخرى أن استعادة وضع العزلة المفروض على إيران ومنعها من التدخل فى شئون دول المنطقة وإضعافها كقوة ملموسة تناهض إسرائيل وتتحدى هيمنتها العسكرية فى الشرق الأوسط، كلها خطوات ضرورية ولكن صارت مع الوقت هى الأخرى باهظة التكاليف.
***
مرة بعد أخرى نتثبت من أن شعبية الحاكم تظل غالبا رهن نجاحاته الداخلية قبل أى نجاحات أخرى. ترامب ليس استثناء، بل كان هو نفسه من جعل خطابه أمام القمة الأمريكية الإسلامية رسالة من الرياض إلى ناخبيه فى الولايات المتحدة، يطمئنهم على مستقبلهم الاقتصادى. بعث إليهم يؤكد ضخامة أرقام العقود والاتفاقات التى حصل عليها خلال أول يومين من أيام رحلته، ويبشرهم بوظائف جديدة وتدفقات مالية واستثمارات هائلة. أما رسالته إلى حكومات الدول الإسلامية وشعوبها فكانت أن «كدوا وافلحوا واطردوا الإرهابيين من بلادكم».