‎كيف سيكتب التاريخ روايتنا؟ - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
السبت 24 مايو 2025 10:14 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

‎كيف سيكتب التاريخ روايتنا؟

نشر فى : السبت 24 مايو 2025 - 6:35 م | آخر تحديث : السبت 24 مايو 2025 - 6:35 م

فى حوار جريدة «الشروق» معى، والذى نُشر فى السادس من سبتمبر الماضى، وأجراه الأستاذ عبدالله محمد إسماعيل، وقام بتصويره الأستاذ إسلام صفوت عن كتابى الأخير «حكايات فى تاريخ مصر الحديث: من نابليون ومحمد على إلى حريق القاهرة، دار الشروق، ٢٠٢٣» سُئلت عن مشاريعى القادمة فى الكتابة، فتحدثت عن مشروع كتاب قادم يناقش كيف سيكتب التاريخ فى المستقبل روايتنا المعاصرة؟ مازال المشروع قيد التخطيط والتطوير، لكن أريد أن أشرك القارئ العزيز معى فى التفكير فى هذا السؤال الذى يشغل بالى بشدة منذ حوالى خمس سنوات، وتحديدا بعد سجال أكاديمى دار بينى وبين المؤرخ الكبير الدكتور خالد فهمى ردا على مقال نشرته بعنوان «كل رجال الباشا» فى الشروق فى ٢٥ أكتوبر، ،٢٠٢٠وهو عنوان مأخوذ من الكتاب الأشهر لخالد فهمى «كل رجال الباشا: محمد على وجيشه وبناء مصر الحديثة» الذى صدر عن دار الشروق فى عشرات الطبعات كانت آخرها طبعة عام ٢٠٢٣ وترجمه للعربية د. شريف يونس. كنت أحاول فى هذا المقال تناول الطريقة التى يٌسرد بها التاريخ وكنت أفرق بين طريقة السردية التاريخية الكلية التى تُعنى بالنتائج والإنجازات المادية النهائية للحقب التاريخية بغض النظر عن ظروف البشر، وبين السردية التاريخية التى تتناول حياة البشر ومشاعرهم وأحلامهم وآمالهم بعيدا عن النتائج المادية الكلية، وبغض النظر عن تفاصيل هذا السجال، لكنه أوحى لى بفكرة أخرى متعلقة بالطريقة التى سيكتب بها التاريخ فى المستقبل عن عصرنا الحالى! للإجابة على هذا السؤال، فكرت أولا من أنه لابد من القيام باصطحاب القارئ والقارئة الأعزاء معى فى رحلة قصيرة قد تستمر لعدد محدود من المقالات، للتفرقة بين عدة أنواع من الكتابات التاريخية على الأقل فى حالة الخبرة العربية المعاصرة.
• • •
‎النوع الأول، هو الكتابة عن التاريخ الدينى عموما والتاريخ الإسلامى خصوصا، وللأسف فى تقديرى المتواضع أنها واحدة من أفقر أنواع الكتابات التاريخية وأكثرها تشوها وانحيازا لأسباب عدة، فى مقدمتها أن عددا كبيرا من كُتاب التاريخ الإسلامى يبدأون الكتابة من حيث يعرفون كيف سينتهون! أى إنهم ينطلقون من الخاتمة التى يعرفون أنهم سينتهون إليها فيقومون بالتالى بتفصيل المقدمة والسرد التاريخى بشكل يخدم الخاتمة! ومن ثم يمكن تخيل كمية المبالغات التاريخية أو التجاهل المتعمد لبعض التفاصيل، أو حتى التزوير الكامل لبعض الأحداث المختلقة لإضفاء طابع من القداسة المزيفة على بعض الشخصيات التاريخية فى التراث! كذلك من ضمن هذه الأسباب أيضا هو الحساسية المبالغ فيها التى يسببها الحديث عن الدين عموما وعن الإسلام خصوصا بحيث لا يستطع الناس العاديون – بل وحتى بعض المؤرخين - التفرقة بين قداسة النصوص الدينية المتعلقة برسالات سماوية، وبين تناول تاريخ التفاعل مع هذه النصوص بشكل بشرى فى مساحة مدنية/سياسية! ولطالما ظلت هناك مقاومة ثقافية لمحاولة بعض المؤرخين المعتبرين نزع القداسة الدينية عن البشر العاديين الذى تفاعلوا مع الرسالة الدينية ونصوصها عبر التاريخ، سيظل هناك دوما انحياز وتشويه لتقديم هذه الأحداث التاريخية الدينية إلى الجمهور، بسبب الرغبة فى قولبتها بشكل مثالى يفترض الكمال ويرفض الاعتراف بالعنصر البشرى الناقص بالضرورة فى التفاعل مع هذه النصوص تاريخيا!
‎كذلك فمن ضمن أسباب هذا التشويه فى تناول التاريخ الدينى فى الخبرة العربية، هو سعى الناس للمعلومة السريعة وخصوصا مع تطور وسائل الاتصال، حيث أصبح الاتجاه العام للناس هو الميل فى الأغلب إلى النص المسموع لا المقروء، وإلى الرواية سريعة الهضم التى تتناول الحياة باعتبارها أبيض أو أسود، شرا أو خيرا، بدلا من الرواية التاريخية التى تتحدى العقل وتحفز على النقد للمساحات الرمادية! هنا جاء مجموعة ممن ادعوا التأريخ وهم فى الواقع ليسوا أكثر من دعاة دينيين شعبويين، فخلطوا العمل الدعوى بالتأصيل التاريخى، فقدموا نسختهم الأكثر تشويها للتاريخ حينما أضفوا طابعا رومانسيا للرواية التاريخية التراثية، لم تكتف باختلاق الوقائع أو تناولها على غير حقيقتها، ولكنها قدمت أسوأ إضافة يمكن تخيلها للعقل العربى أو الإسلامى، وهى دفع الناس للاعتقاد بأن التاريخ الإنسانى والحضارى لم يبدأ إلا مع الإسلام، محاولين بوعى أو بدون إلغاء تاريخ ما قبل الإسلام وهم فى ذلك خلطوا بين الاستخدام الدينى لمصطلح «الجاهلية» وبين الحقيقة التاريخية/المدنية بخصوصه!
‎ لم يؤد هذا الاتجاه إلا إلى إيهام العقل العربى بأن التاريخ البشرى لم يبدأ إلا مع نزول الوحى على الرسول (صلعم) وهذا النوع مما يمكن أن نطلق عليه الإنكار التاريخى هو أسوأ ما يمكن أن يقوم به داع متخف فى زى مؤرخ لأنه يجّهل القارئ، بل ويدفعه تدريجيا نحو العنصرية والتعصب الدينى، ناهيك عن الجهل الحضارى!
‎بالطبع هناك استثناءات، وهناك كتابات تاريخية عن التراث قدمت رؤية نقدية معمقة، لكنها ظلت تعبر عن أقلية عددية من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن بعض أصحابها إما بدأوا بمقدمة شديدة التفاؤل عما ينوون نقده، ثم انتهى بهم الحال بخاتمة شديدة المحافظة، دون أن ندرى ماذا حدث بين المقدمة والخاتمة، وعما إذا كان هذا التناقض مقصود منذ البداية كوسيلة لجذب القارئ عن طريق العناوين الرنانة والمقدمات الواعدة، أم أن هناك ضغوطا تعرض لها الكاتب فى المرحلة الزمنية الفاصلة بين كتابة المقدمة والوصول إلى الخاتمة، سواء كانت هذه الضغوط من دور النشر أو من فئات مجتمعية بعينها، أو حتى من الضمير أو الوازع الدينى للمؤرخ – على عمومية كلمة الضمير أو الوازع - التى تضغط عليه معنويا فيختلط عليه الأمر فى النهاية بخصوص التفرقة بين نقد التاريخ البشرى التراثى كمنهج، وبين نقد الرسالة الدينية نفسها، وإن كان هذا النوع الأخير من الكتابات فى النهاية لا يمكن شيطنته بالكامل وهو منتشر بشكل أكبر فى الجامعات التى تدرس الأديان بشكل مقارن فى الغرب، ولكن لاعتبارات ثقافية عدة لا يمكن تخيل هذا النوع من الكتابات فى عالمنا العربى وإن كانت هذه على أية حال قضية أخرى غير تلك التى أكتب عنها فى هذا المقال!
• • •
‎النوع الثانى، من الكتابات التاريخية المعاصرة فى العالم العربى هى تلك الكتابات التاريخية المسيسة أو المؤدلجة، وهى لا تختلف كثيرا من حيث المنهج مع النوع الأول، حيث يبدأ الكاتب أو المؤرخ من حيث يعرف كيف سينتهى، يقوم كترزى الملابس بتفصيل الأحداث على مقاس الهدف الذى يريد الوصول إليه، أو الشخصية أو الأيديولوجية التى يريد الترويج لها، وقد شهدنا بأنفسنا كتابات معاصرة عن الحاضر باعتبار أنه تأريخ للمستقبل، وبينما نحن نعيش الأحداث رأينا المفارقة عبر قراءة تشويه متعمد لهذا الحاضر، لذلك تساءل الكثيرون عن مدى دقة الروايات التاريخية التى تحدثت عن فترات تاريخية عاصرتها، بينما لم نعاصرها نحن القراء!.
‎هل يمكن افتراض أن هذه الروايات قامت بتزوير الماضى أيضا كما نشهد بأنفسنا تزوير الحاضر؟ أعتقد أنه تساءل عن مشروع ويحتاج إلى المزيد من البحث حتى لا نظلم هذه الكتابات أو نقع فى خطأ التعميم!
‎الحقيقة أن الكتابة عن التاريخ المعاصر للأحداث والشخصيات السياسية يمكن من حيث المبدأ افتراض أنها أكثر دقة، فالكاتب عايش بنفسه هذه الأحداث وقد يكون حتى جزءا منها، ولكن لأن البيئة السياسية العربية فى معظمها مغلقة وضيقة الأفق ورافضة للانفتاح على السرديات التى «تخرج عن النص» من ناحية، ولأنه لا يمكن استبعاد أن بعض المؤرخين يفعلون ذلك ليس فقط بدوافع أيديولوجية، ولكن أيضا بدوافع نفعية مادية بحتة، فتكون هنا المعضلة والتحيز فى هذا النوع من الكتابات!
• • •
‎الفارق الرئيسى ربما بين النوع الأول والنوع الثانى من الكتابات التاريخية، هى أن الأخيرة يمكن نقدها بشكل أكثر سهولة، سواء لأن بعض الأيديولوجيات التى تروج لها قد ذهب وهجها أو أن الأشخاص التى تحاول تلميعها قد غادرت الحياة! بالإضافة أيضا أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعى قد سمح بهامش أكبر من الحريات فى تقييم هذه الكتابات ومن ثم سمح بمساحة نقد أكبر دون أن يتماس هذا النقد بالضرورة مع الحساسيات الثقافية والدينية للجماهير، كما هو الحال مع النوع الأول.

‎أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر