إذا كنا ننشد إدخال عنصر العقلانية فى الثقافة العربية، وهو مطلب نادى به الكثيرون من المفكرين العرب، فعلينا أن ننظر فى بعض المقولات المتعلقة بهذا الموضوع.
من هذه المقولات الخلط بين تعبيرى المخ والعقل. فالعقل ليس نتاج التفاعلات الكيميائية والكهربائية فى مخ الإنسان، كما يحاول بعض الباحثين فى حقل دراسة الأعصاب أن يؤكدوا عليه.
ولا ينكر أحد تأثير تفاعلات المخ تلك على العقل، وتسببها فى حدوث بعض الأمراض العقلية والنفسية.
لكن أهم مكون لعقل الإنسان هى التفاعلات الاجتماعية فيما بين دماغ هذا الإنسان وبين أدمغة البشر الآخرين فى محيطه الاجتماعى. وهذا يتم من خلال أشكال لا تحصى من وسائل التفاعلات، وعلى رأسها كل أنواع الكتابات والتعبيرات الفنية والأدبية والتوجيهات الدينية والمناقشات الخاصة والعامة سواء عن طريق وسائل الإعلام أم عن طريق وسائل الاتصال الاجتماعى.
***
عقل الإنسان هو حصيلة ما وصل للفرد من أقوال الأنبياء والفلاسفة والأدباء والمفكرين على مستويات العائلة والمدرسة والجامعة والساحات العامة، وعلى مقدار تفاعل ذلك الإنسان مع كل ذلك.
مدرسة علم الأعصاب الفسيولوجى وقريبه علم الأعصاب النفسى لا تعطى الأهمية القصوى لمسألة تغيير قناعات المجتمعات والبشر من خلال النقاش العام، من مثل تغير القناعات تجاه حقوق المرأة والطفولة وحماية البيئة وبعض العادات الاجتماعية وحقوق الإنسان ونبذ الحروب.
وبالطبع نحن هنا نتحدث عن العقلانية، وليس عن الحكمة، التى هى أعلى مراحل العقلانية التى تحكمها كوكبة من القيم الأخلاقية والروحية ومن المشاعر الإنسانية.
وإذن فدراسة موضوع عقل الإنسان وتكوينه وأمراضه يجب ألا تكون حكرا على علماء الأعصاب وإنما يجب أن تكون فى قلب العلوم الاجتماعية والتاريخية.
***
كل ما ذكرناه سابقا يتعلق بالعقل الفردى. وفى الحال يطل موضوع العقل الجمعى أو المجتمعى برأسه. وفى الحال أيضا يطل موضوع نوع العقل الذى نتحدث عنه ونريد تربيته: العقل النظرى أم العقل العملى. ولا يظن أحد أن هذه الأسئلة هى ثرثرة أكاديمية. فالمفكر المغربى عبدالله العروى يؤكد أن التراث الفكرى العربى الإسلامى يدور كله حول العقل. وعندما كتب جمال البنا عن أصول الشريعة ذكر بأن الأصل الأول هو العقل. ثم هل ننسى قصة المعتزلة وطروحاتهم حول العقل وأهميته فى فهم النص وفى طرح التساؤلات الدينية الكبرى؟ فإذا كان الأمر كذلك، يسأل الإنسان نفسه، فلماذا لم يؤد ذلك الشغف بالعقل فى تراثنا إلى خلق مجتمع عقلاني؟ ذلك أن مجتمعاتنا العربية، خصوصا فى أيامنا التى نعيش، تمارس اللاعقلانية فى كل مجالات الحياة: فى العائلة والسياسة والاقتصاد والاجتماع والدين.
يجيب البعض بأن اهتمام تراثنا بالعقل تركز على العقل النظرى التجريدى، وهو أمر مارسته كل مدارس علم الكلام فى التاريخ العربى الإسلامى. وكان ذلك الاهتمام الشديد بالعقل النظرى التأملى من أجل تثبيت اليقين الدينى عند الناس، لكنه أدى أيضا إلى إهمال العقل العملى أو عقل الفعل الذى يهتم بالجوانب الحياتية الدنيوية، وذلك من خلال اهتمامه بالارتقاء بالعلوم وببناء حركة تكنولوجية وصناعية.
أما البعض الآخر فيشير إلى انشغال العرب فى القرون الحديثة من تاريخهم بمسألة الصراع المصطنع بين المحافظة على هويتهم وشخصيتهم من خلال التركيز على تراثهم الفكرى وإعلاء السلفى التقليدى منه، وبين خوفهم من التغريب والاندماج فى حضارة الغرب. وقد نتج عن وجود ذلك الصراع تجميد محاولات بناء العقلانية، بشقيها النظرى والعملى الفاعل، إلى حين انتهاء فترة ذلك الاستقطاب الحاد المفجع بين الأصالة والمعاصرة.
***
إذن من الواضح أن تكوين الإنسان العربى العقلانى فى أرض العرب وترسيخ العقلانية فى ثقافتنا سيحتاج إلى حسم أمرين. الأمر الأول هو تكميل العقل النظرى التأملى المنتشر فى كل تراثنا ببناء العقل العملى الفاعل الذى يهتُم بالحياة المحسوسة، بالطبيعة والاجتماع، ليدخل العرب فى عصر إبداع المعرفة والتكنولوجيا وما ينتج عنهما من اقتصاد إنتاجى صناعى وزراعى.
أما الأمر الثانى فهو حسم موضوع الأصالة والمعاصرة. فهناك مكان لكليهما، بل كلاهما ضرورى لإحداث النهضة العقلانية المطلوبة.
لكننا هنا نتكلم عن أهمية التراث الذى خضع للمراجعة والنقد والتمحيص والتجاوز إلى متطلبات الحاضر. كما نتكلم عن الانخراط فى المعاصرة بشكل إبداعى ندى ذاتى غير ممارس للتقليد الفج الأعمى ولا خاضع لمشاعر الدُونية والعجز أمام الآخر.
فى ظل هذين التوجهين، فى الآن نفسه، وفى وجود الحرية والإرادة العامة لممارسة متطلبات التوجهين، سيوجد تفاعل ذهنى اجتماعى، فيه الكثير من الجرأة والإبداع والمغامرة، مما سيؤدى إلى بناء الإنسان العقلانى المتزن، المطلوب وجوده بكل إلحاح.
هذه خطوة واحدة من بين خطوات كثيرة ستحتاج أمتنا القيام بها، وذلك بعد أن أثبتت فواجع السنوات الأخيرة بأن الترقيع والاهتمام بالسطح ما عادا يجديان. وهى خطوة تتحدى إرادة وإبداع الجميع وعلى الأخص فى حقول التربية والتعليم والعلوم الاجتماعية ومنابر الإعلام الجماهيرى، بما فيها المساجد والكنائس.