ربما قضيت الأيام الأخيرة من السنة الماضية، والأيام الأولى من العام الحالى، متابعا بتعجب ما تناقلته وسائل الإعلام عن أوضاع الاقتصاد العالمى، وكيف أنه يتعرض لأزمات شتى متعددة ومستمرة، لم تترك مصدرا لها أو بعدا إلا شملته. وشرع المحللون يصنفون حدتها وأوجه تأثيرها على حياة الناس وأسباب معيشتهم. ثم ها هى صحف اقتصادية واسعة الانتشار، مثل «فايننشيال تايمز» اللندنية، تزف فجأة أخبارا وتقارير عن أجواء للتفاؤل، انتقلت عدواها بين جنبات منتجع دافوس السويسرى؛ حيث عقد الأسبوع الماضى المنتدى الاقتصادى العالمى. وانتشرت روح الأمزجة المبتهجة؛ خصوصا مع ارتفاع البورصات المالية العالمية بنحو 4 فى المائة منذ بداية العام.
دعم هذا التوجه المتفائل نسبيا قرار الصين ــ كثانى أكبر كيان اقتصادى عالمى ــ بإنهاء سياسة «صفر ــ كورونا» وإعادة فتح البلاد للحياة العادية، ومعاودة النشاط الاقتصادى إنتاجا واستهلاكا. واحتفى البعض أيضا بانخفاض أسعار الغاز الطبيعى بنحو 80 فى المائة، بما سيخفف العبء عن ثالث أكبر تجمع اقتصادى تمثله أوروبا التى عانت أزمة طاقة حادة وتقلبا فى أسعارها. وكان السبب الأخير للانطباعات الإيجابية هو أثر قانون تخفيض التضخم للولايات المتحدة الأمريكية واستثماراته الموعودة والمدعومة بسخاء لتنفيذ برامج التحول الأخضر؛ خصوصا فى مجالات الطاقة والبنية الأساسية. مثل هذه المؤشرات عن الاقتصادات الثلاثة الأكبر عالميا ستدفع المؤسسات المالية الدولية إلى تحديث لمؤشرات الاقتصاد العالمى، لتتوقع اقتصادا عالميا يتحاشى فى مجمله فوهات الركود، ويسيطر على التضخم.
ويجب ألا نتعجب من سرعة تغير التوقعات وتوجهاتها، فقد تطرقت فى مقال سابق نشرته هذه الصحيفة الغراء فى شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضى، إلى أن «ظروف اللايقين التى يعيشها العالم تجعل احتمال حدوث التوقعات المعلنة من أنواع التخرص، وإن صدقت بعض هذه التوقعات فهى من المصادفات غير المحسوبة. ولمن لديه شك، فليراجع توقعات المؤسسات الدولية على مدى السنوات الثلاث الماضية، منذ اندلاع جائحة (كورونا) عن نمو الاقتصاد العالمى، ومعدلات التضخم، وأسعار السلع الرئيسية، كالنفط ومواد الطعام والمعادن النفيسة، وأسعار صرف العملات الرئيسية، وليحدد مدى اقترابها من الواقع المعيش».
على الرغم من ذلك، ليس لدى من شك فى أن الاقتصاد الأمريكى سيخرج فى النهاية من أزمة التضخم الراهنة بإجراءات السياسة النقدية المتبعة، وقد يضطر البنك الفيدرالى لرفع أسعار الفائدة بمقدار يتراوح بين 25 و75 نقطة أساس، أى بأقل من نقطة مئوية حتى نهاية العام، ثم سيأخذ فترة لمراجعة حقيقة ما يحدث فى سوق العمل بين مؤشرات تظهر متانته، ومؤشرات أخرى متعارضة تتعلق بتسريح أعداد كبيرة من العاملين فى بعض الشركات الكبرى من السوق، كما سيتابع مؤشرات نمو الاقتصاد ليدفع به بعيدا عن تهديدات الركود، وسيتحقق من مدى صمود المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وقطاع العقارات، وسلامة القطاع المالى من التعرض لمخاطر زيادة القروض المتعثرة.
أما الصين، فبعد ثلاثة أعوام من الإغلاق بسبب «كوفيد» ستكون لسرعة عودتها للحياة الطبيعية آثار حميدة، برفع معدلات النمو والتشغيل بعد فترة قد يتطلبها التكيف مع الواقع الجديد، من حذر وتحفظ على مدى الشهور الأولى من هذا العام، ولكن إذا تركت الأمور تسير فى أعنتها على النحو المتوقع فسيرتفع معدل نمو الاقتصاد الصينى بتأثير إيجابى على متوسط نمو الاقتصاد العالمى. ولكن هذه الزيادة فى نمو الاقتصاد الصينى ستصحبها زيادة فى الطلب على الطاقة والسلع الرئيسية والخامات وأسعار النقل والسفر، بما يستوجب حساب الأثر الصافى، وفقا لمدى استجابة قطاعات الإنتاج والعرض والتوزيع، بافتراض سلامة سلاسل الإمداد من أى مربكات طبيعية، أو مفتعلة، من جراء تبنى سياسات حمائية مقيدة من جانب بعض شركاء الصين التجاريين.
ربما تبدد زيادات أسعار الطاقة ــ بسبب معاودة الاقتصاد الصينى مسيرة نموه ــ مظاهر الابتهاج المبكر باحتمالات انخفاض معدلات التضخم فى أوروبا؛ خصوصا مع أجواء الحرب الدائرة فى أوكرانيا، بما سيحفز استمرار البنك المركزى الأوروبى فى السياسات التقييدية؛ بل سعيه للضغط على السياسات المالية العامة، حتى لا تتبنى سياسات توسعية تقوض جهوده فى مكافحة التضخم. وربما ستتكرر الحالة الأوروبية مجددا بالتأخر فى التعافى؛ ليس فقط لمشكلات الطاقة والحرب، ولكن لما تعانيه القارة العجوز من تحديات ديموغرافية، بزيادة نسبة الشيخوخة، وتراجع معدل نمو السكان، وتراجع الإنتاجية، وانخفاض نسب الإنفاق على الابتكار والبحث والتطوير باستثناءات محدودة.
ما يعنينا هو الأثر الصافى لهذه التغيرات، والتدافع بين الاقتصادات العالمية الكبرى، على البلدان النامية. فقد أفصحت سجلات الأزمات العالمية الأخيرة عن أن الدول النامية؛ خصوصا ذات الدخل المتوسط منها، هى عادة الخاسر الأكبر فيها إلا قليلا، كما أن الأشد اضطرابا وعرضة لمخاطر هذه الأزمات داخل هذه الدول متوسطة الدخل هى أسر الطبقة الوسطى. فالشرائح الغنية لديها ما يحميها من هذه الأزمات؛ بل قد تستفيد منها وفقا لمصادر ثرواتها ودخولها، أما الشرائح الأقل دخلا فأصبحت لها منظومة متعارف عليها لشبكات الحماية الاجتماعية والدعم العينى والنقدى، بتكاليف محددة فى موازنة الدولة، والتى يمكن أن تحمى هذه الشرائح شريطة تفعيلها المبكر بكفاءة، قبل زيادة تأثير احتدام الأزمات عليهم.
وما أقصده بفخ الوسط يشمل الدول متوسطة الدخل، والتى تشكل ثلث اقتصاد العالم، وتضم 75 فى المائة من سكانه، ويعيش فيها أكثر من 60 فى المائة من فقراء العالم. وتنتمى إلى هذه المجموعة أغلب البلدان العربية، وأعداد متنامية من البلدان الأفريقية تشكل الثقل السكانى للقارة السمراء. وقد أشرت من قبل إلى أن الدول متوسطة الدخل لا تتمتع بمزايا الدول المتقدمة فى الاقتراض الرخيص بعملاتها المحلية من الأسواق الدولية بلا مخاطر فى سعر الصرف وتقلباته. كما أن دول فخ الوسط لا تستفيد من مزايا الاقتراض الرخيص الميسر من المؤسسات التنموية الدولية، كالذى تستفيد منه الدول الأفقر والأقل دخلا. فقد حُرمت الدول متوسطة الدخل من جل التمويل الميسر بافتراض مضلل وفضفاض بأن لديها قدرات لتدبير احتياجاتها التمويلية، من خلال مواردها المحلية واستثمارات القطاع الخاص، والنفاذ إلى الأسواق المالية الدولية. فسبل التيسير لحياة الفقراء ومتوسطى الدخل مطلوبة بما يتجاوز اعتبارات التصنيف العقيمة للدول، وفقا لشرائح دخول تختزل واقع التنمية فى متوسطات مضللة، لا تأخذ فى الاعتبار التفاوت الحاد فى توزيع الدخل، أو مدى الهشاشة عند التعرض للصدمات.
إذن لدينا معضلتان يلخصهما فخ الوسط: مرة إذا وقعت فيه الدول متوسطة الدخل، ومرة أخرى إذا تناولنا أوضاع الطبقة الوسطى بهذه البلدان فى الاعتبار. وأضيف إلى ذلك ما قد نلاحظه أيضا من تحديات تتعرض لها المشروعات المتوسطة، فالشركات الكبرى لها الحظوة فى التمويل بمعاملات تفضيلية من البنوك والأسواق المالية، والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر تتوفر لها حزم مساندة بدعم محلى أو خارجى، أما المشروعات المتوسطة فى كثير من البلدان النامية فلا سند لها أو معين فى أجواء الأزمات، فلا هى طالت حظوة الشركات الكبرى، ولا هى أصابها إغداق الداعمين للمشروعات الصغرى. ولهذا ينتشر تعبير الوسط المنسى لوصف حال من وقع تصنيفه فى خانات الوسط؛ سواء كانت دولة أو شركة أو أسرة منتمية للطبقة الوسطى.
ويستلزم الأمر مراجعة لسبل تيسير التمويل فى وقت الأزمات. ففيما يتعلق بالبلدان النامية تجب إعادة النظر فيما تحصل عليه من المؤسسات المالية الدولية، وشروط اقتراضها المغالية، بتيسير هذه الشروط؛ سواء من حيث التكلفة أو فترة السماح أو مدة التمويل. وقد اقترحت على سبيل المثال ألا تزيد تكلفة تمويل العمل المناخى على 1 فى المائة، بفترة سماح لا تقل عن عشر سنوات، وفترة سداد لا تقل عن عشرين سنة، ويمول هذا الدعم من تعهدات المائة مليار دولار الموعودة من البلدان المتقدمة التى لم تصل بكاملها أبدا للبلدان النامية. وبالنسبة للشركات المتوسطة فتجب مساندة الواعدة منها ذات المكون التكنولوجى الرائد، وصاحبة الإسهام الملموس فى التشغيل والابتكار والتصدير. أما أسر الطبقة الوسطى فينظر لها على أنها سند الاستقرار المجتمعى، المحافظة على قيمه، وبين شرائحها يحدث الحراك الاجتماعى المطلوب للتقدم.
وفى عهد صعود الاقتصاد اليابانى بعد الحرب العالمية الثانية، كان إذا سئل الشباب عن أى مركز اجتماعى يرغبون فيه مستقبلا، تأتى الإجابة تلقائية برغبتهم فى أن يكونوا مثل سائر الناس. ففى المجتمعات التى تشكل الطبقة الوسطى غالبية مكونات هرمها السكانى والاقتصادى، يكون طموح الفرد وتوقعه أن يكون مثل عموم الناس دون نقصان.