أوروبا الباحثة عن تشرشل والمظلة النووية - خالد أبو بكر - بوابة الشروق
الأربعاء 26 مارس 2025 7:25 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أوروبا الباحثة عن تشرشل والمظلة النووية

نشر فى : الثلاثاء 25 مارس 2025 - 7:25 م | آخر تحديث : الثلاثاء 25 مارس 2025 - 7:25 م

 أوروبا اليوم، كما وصفها المبعوثُ الخاصُّ للرئيسِ الأمريكى دونالد ترامب، ستيف ويتكوف، «تبحث عن تشرشل». التصريحُ لم يأتِ فى سياقٍ أدبى أو تاريخى، بل على هامشِ لقاءٍ جمعه بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ضمن تحضيرات جارية لمفاوضات هدنة محتملة فى أوكرانيا. قالها بسخرية، وهو يصف أوروبا التى تفقد تدريجيا إحساسها بالحماية، والتى تنظر نحو واشنطن بقلق لم تعرفه منذ نهاية الحرب الباردة. لم يكن تصريح ويتكوف مجرد زلة لسان دبلوماسية، بل كان توصيفا دقيقا لعجز قارى عن إنتاج زعامة وقرار. أوروبا تفتقر اليوم إلى تشرشل، لا بمعنى الخطابة، بل بمعنى الشجاعة الاستراتيجية، وصياغة إرادة سياسية جامعة فى وجه الخطر الداهم.

فكم كان مهينا وقاسيا على أوروبا أن يصف مبعوث ترامب مقترح بروكسل بإرسال قوة أوروبية لمراقبة الهدنة فى أوكرانيا بأنه نوع من «الاستعراض الفارغ»، لأن الدور الحقيقى فى إنهاء الحرب «سيكون أمريكيا ــ روسيًّا، وأن الأوروبيين يحاولون لعب دور يفوق قدراتهم».

• • •

تفتح هذه الإهانات العلنية ملف الأمن الأوروبى على مصراعيه. لقد كانت «المظلة النووية» الأمريكية، طوال عقود، أحد أعمدة الأمن الأوروبى، حتى وإن كانت قائمة على توازن الرعب بين الشرق والغرب. لكن مع تصاعد المزاج الانعزالى داخل الولايات المتحدة وعودة ترامب إلى واجهة المشهد السياسى بشعار «أمريكا أولا»، بدأت أوروبا تتساءل بجدية: ماذا لو سقطت تلك المظلة؟ ماذا لو قررت واشنطن الانسحاب من التزاماتها النووية والدفاعية تجاه الحلفاء «المقصّرين» فى الإنفاق العسكرى؟

الجواب، حتى الآن، محيّر. فالاتحاد الأوروبى، الذى يبلغ عدد أعضائه 27 دولة، لا يملك سوى قوة نووية واحدة هى فرنسا. بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، بقيت باريس وحدها فى نادى الردع داخل التكتل الأوروبى، لكن الأهم من كل ذلك أن السيطرة على هذا السلاح تبقى فرنسية بحتة، ولا تقبل باريس أى شكلٍ من أشكال المشاركة فى قرار استخدامه.

• • •

الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون طرح فى السنوات الأخيرة فكرة «البُعد الأوروبى للردع الفرنسى»، وفتح حوارا مع الشركاء الأوروبيين حول «سيادة استراتيجية مشتركة»، لكنه لم يذهب إلى حد اقتراح تقاسم القرار النووى، بل اكتفى بعروض رمزية مثل تمركز الطائرات الفرنسية المسلحة نوويا قرب الحدود الألمانية، أو تدريبات جوية مشتركة انطلاقا من قواعد فى بولندا أو فنلندا.

هذه المبادرات، رغم رمزيتها، لم تُقنع الكثير من العواصم الأوروبية؛ فالثقة فى الردع تتطلب أكثر من طائرات أو غواصات. تتطلب شراكة حقيقية فى اتخاذ القرار، وإجماعا سياسيا يضمن أن هذا السلاح لن يكون أداة فرنسية بوجه أوروبى، بل درعا أوروبيا فى مواجهة الخطر المشترك. وحتى اللحظة، لا تزال فرنسا متمسكة بعقيدتها النووية المستقلة، مما يترك الدول الأخرى فى موقع المتفرج، أو المتردد.

أما بريطانيا، القوة النووية الثانية فى أوروبا، فقد خرجت من الاتحاد، ولا تُعد جزءا من مشروع الردع الأوروبى. ترسانتها النووية، المعتمدة على صواريخ «ترايدنت» الأمريكية، خاضعة لتنسيق تقنى واستراتيجى عميق مع واشنطن. صحيح أنها ملتزمة بأمن أوروبا عبر الناتو، لكنها ليست معنية بمشاريع السيادة الدفاعية الأوروبية.

• • •

فى ظل هذه المعادلة، تبدو أوروبا كمن يملك سلاحا نوويا على الورق، لكنه لا يصلح لبناء مظلة مشتركة. وزاد الطين بلة تعثّر مشاريع الدفاع الأوروبية، مثل مبادرة إعادة تسليح أوروبا «ReArm Europe» التى طرحتها المفوضية الأوروبية فى الأسابيع الأخيرة، أو مقترح كايا كالاس، مسئولة السياسة الخارجية والأمنية فى الاتحاد الأوروبى، بتخصيص عشرات المليارات لتسليح أوكرانيا. من سخرية القدر أنه حتى خطة محدودة بخمسة مليارات يورو لم تُقرّ فى القمة الأوروبية التى انعقدت فى بروكسل الأسبوع الماضى، وسط انقسامات مزمنة بشأن التمويل، والسيادة، ومصالح الصناعات العسكرية.

وفى الوقت الذى تزداد فيه الضغوط على أوكرانيا، وتستمر التهديدات الروسية، تتصرف الدول الأوروبية وكأنها تملك ترف الوقت. لكن الزمن لا ينتظر. الردع لا يُبنى بالكلمات، ولا بالمؤتمرات، بل بالإرادة السياسية الصلبة، وبالاستعداد لتحمل المسئولية. فى غياب واشنطن، ليس أمام أوروبا إلا أن تعيد التفكير بنفسها، كقوة قادرة على الدفاع عن وجودها وحدها.

• • •

ربما كانت سخرية ويتكوف جارحة، لكن فيها من الحقيقة ما يكفى لإيقاظ أوروبا من سباتها. تشرشل الذى تبحث عنه أوروبا ليس شخصا، بل موقف. والمظلة التى تحتاجها ليست سلاحا، بل هى قرار بأن التكتل الأوروبى لن يكون بعد اليوم رهينة تقلبات البيت الأبيض، أو استعراضات الكرملين.

فى غياب تشرشل الجديد، يبقى الخطر أن تواصل أوروبا كتابة استراتيجياتها بالحبر، بينما يُكتب مصيرها بالنار!

التعليقات