«سيأتى علينا حين من الدهر لن نجد فيه صحفيا ولا إعلاميا مصريا قادرا على الدفاع عن مصر وحقوقها وقضاياها»، لعل عددا من الأصدقاء الصحفيين يتذكرون هذه الجملة التى كانت ختام حوار دار بيننا قبل عشر سنوات على أقل تقدير، تعليقا على حالة التردى التى انحدر إليها الإعلام المصرى منذ سنوات، بعد أن راح البعض منهم يضع منافعه بوصلة لتوجهاته، ولا يتوانى فى تقديم فروض الولاء والطاعة لمن يرى أن مصالحه معهم.
لم أكن أتصور، وأنا أتحدث إلى الاصدقاء، أن الوضع فاق مرحلة القدرة على الدفاع عن القضايا المصرية، بل وصل التردى إلى حد تماهى البعض مع مواقف الآخرين والدفاع المستميت عن «حقوق الغير» فى مواجهة حقوقنا، كما رأينا فى أزمة جزيرتى صنافير وتيران، التى انتجت انقساما غير مسبوق فى الشارع المصرى.
لقد منعتنى ظروف صحية خلال الأسبوعين الماضيين من التعبير عن موقفى فى خضم الجدال الحاد والعنيف الذى انتشر كالنار فى الهشيم وسط المصريين من الإسكندرية إلى أسوان، ومن السلوم إلى طابا، بشأن ملكية الجزيرتين، حيث راح البعض يدافع عن الحقوق السعودية فى مواجهة من يتمسكون بمصريتهما، ووصل الأمر إلى شطط الاتهام بالتخوين، أو المزايدة فى المقابل.
حاول البعض أن يمسك بالعصا من المنتصف فى قضية لا تقبل مثل هذه الألاعيب، ومحاولة الهروب من مسئولية الكلمة، وهى أمانة، فراح يتحدث عن سوء إدارة الحكومة للأزمة، أو عدم ملاءمة توقيت طرح القضية، متناسيا أننا قدمنا تضحيات جمة فى سبيل الدفاع عن تلك الارض التى يحاولون الآن اقناعنا أنها لم تكن يوما لنا.
يتحجج البعض بأننا ننفذ قانونا واتفاقيات دولية، وكأن تلك القوانين لا تعرف طريقنا إلا للتنازل عن أرض أجدادنا التى يجب أن تورث لأحفادنا، وأن ينتقل الإرث من جيل إلى جيل كامل غير منقوص، وأتساءل لماذا لا نتمسك بالقوانين والمعاهدات الدولية فى العديد من الملفات؟ وهل تعطى هذه القوانين الحق فى شن حملات اعتقال غير مسبوقة بحق كل من يقول إن تيران مصرية؟ ألا تسمح هذه القوانين لمعارضى اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية بالتعبير عن رأيهم باعتباره حقا أصيلا من حقوق الإنسان؟!
يقول المدافعون عن الإخراج الردىء لأزمة الجزيرتين، إن القضية مطروحة منذ سنوات طويلة، لكن يبدو أنها كانت مطروحة فى خيالاتهم، وأن قدموا ما يسمونه وثائق، واحدة تلو الاخرى، وسأضرب مثالا بالجزر الإماراتية المحتلة من قبل إيران، فما من اجتماع لمجلس التعاون الخليجى سواء على مستوى القمة أو وزراء الخارجية، إلا وتضمن بيانه الختامى التأكيد على أحقية الإمارات العربية فى جزرها، فلماذا لم نشهد لقاء خليجيا واحدا يتحدث عن أحقية السعودية فى صنافير وتيران؟!
هل كانت الشقيقة السعودية تخفى الأمر عن باقى شركائها فى دول مجلس التعاون باعتبار صنافير وتيران شأنا سريا، لا يجوز الكشف عنه؟!
وفى الأخير، عصا الأمن الغليظة التى تسعى لتكميم الافواه، وإخراس الاصوات المعارضة، والقبض على الشباب من المقاهى، ليس حلا، ولن يكون، فقد مضى الوقت الذى يمكن أن يكون للأمن الكلمة الفصل فى القضايا الخلافية، وتحميل جهاز الشرطة عبء تحمل مسئولية منع التعبير عن حالة الغضب التى تجتاح الشارع المصرى فى قضية الجزيرتين، ضرره سوف يفوق بمراحل نفعه، والأولى البحث عن مخارج تحفظ للأطراف المخطئة ماء الوجه، فليس عيبا الاعتراف بالخطأ، وبما يجنبنا المزيد من الأزمات.