لو راجعنا أدبيات الفكر القومى العروبى، طيلة مسيرته وطيلة تاريخ الحركات السياسية التى تبنّته، فإننا سنجد دوما، عند الغالبية من مفكريها وقادتها، اقتناعا بإعطاء أولوية مفصلية عالية لمكوّن الوحدة العربية.
لكن النقاشات الحادة جرت حول تفاصيل أنواعها ودرجاتها ومراحل سيرورتها. بعضهم أصرّ على أن تكون اندماجية شاملة من البدء حتى ولو تطلّب ذلك ممارسة الأفكار والأساليب الثورية، والبعض الآخر أرادها تدريجية حتى لو بدأت فيما بين قطرين أو أكثر، أو فيما بين مجموعة من الأقطار العربية التى تكون إقليما جغرافيا من مثل أقطار المغرب العربى الكبير أو من مثل أقطار الخليج العربى أو من مثل إقليم الشام.
لكن المهم أن هاجس توحيد الأمة بأى شكل كان لم يغِب عن بال الغالبية. وكان العنصر الأساسى الذى يقف وراء ذلك التميّز لوحدة الأمة هو الأخطار الخارجية أو الاضطرابات الداخلية.
• •
مقابل ذلك التوجه الوحدوى كان يقف دوما موقف القوى الاستعمارية وبعض القوى الإقليمية التى كانت ترى فى أى نوع من الوحدة، مهما صغر أو كبر، خطرا على مصالحها ونفوذها وهيمنتها على المنطقة.
نذكر كل ذلك لأن الوضع العربى الحالى، الذى ما إن يخرج من محنة إلا ويدخل فى محنة أخرى، والذى أصبح ألعوبة فى يد كل من هبّ ودبّ، لن يخرجه مما هو فيه إلا نوع من الوحدة. جميع الأقطار العربية حاليا تعانى من مشاكل داخلية أو صراعات يفرضها الخارج، وجميعها غير قادرة على مواجهة تلك المشاكل. الجميع يعرف ذلك، وكثيرون يكتبون عن ذلك ولا يتحدثون بلغة واحدة عندما يتحدثون عن الحلول.
• • •
والغريب أن أعداء هذه الأمة يتصرفون تجاهها دوما كجبهة متناغمة إلى أبعد الحدود، بينما يبقى جواب الأمة الواحدة غير متناغم ولا متناسق ولا متعاون ولا متعاطف. وهو وضع لم تعرفه الساحة العربية حتى فى أحلك فترات تاريخها. دوما تظهر أيديولوجية أو يصعد بطل قومى مشهود له بالحكمة فتجد الأمة طريقها للخروج، إلا فى هذه المرة فإنه تغيب كل عوامل الخروج.
مرة أخرى نشدّد على أن الغياب ذاك سببه غياب المكون الرئيسى. غياب الفكر والسلوك والاستعمال الوحدوى بصورة مفجعة محيّرة.
الغريب أنه حتى المؤسسات التى من الممكن استعمالها لبحث هذا المشهد والخروج من تبعاته، مثل الجامعة العربية، ومجلس التعاون، ومنظمة التعاون الإسلامى.. جميعها أصبحت مجمدة أو مقصيّة أو لا يتم النظر اليها والتعامل معها بتقدير.
ومع أن الجميع يعرفون بأن هذا التصرف إنما يخدم بالضبط ما يخططه ويريده الأعداء، وهم معروفون بل وهم يفاخرون بذلك ليل نهار، إلا أن السّاحة بقدرة قادر أصبحت بلا وجود القطر القاعدة الذى يستطيع قيادة الأمة، ولا وجود القائد الشعبى الموثوق به من كل الأمة، ولا الإحساس الكافى بفداحة الأخطار التى تواجهها الأمة حاليا.
النتيجة أن تجد الأمة العربية، التى كانت تحلم وتكافح منذ عقود بشتى أنواع وحدتها القومية، تجد شعوبها يموتون من الجوع والعطش أو تحت الركام أو فى قوارب الموت الهاربة إلى المنافى.
أغرب من كل ذلك هو السكون التام الذى يخيّم حاليا على مؤسسات وملايين الأفراد فى المجتمعات العربية، بينما يخرج الملايين فى شوارع العالم كله للتنديد بالممارسات البشعة الهمجية التى يرتكبها أعداء الأمة ضد إنسان هذه الأمة المفجوعة. وكان الإنسان ينتظر تفعيل عشرات المؤتمرات والاجتماعات لمؤسسات المجتمع العربى المدنى لبحث الأمر ولبحث الدفاع عن النفس وعن المستقبل. لكن العجز أصبح متمكنا حتى من الذين كانوا فى يوم ما فى مقدمة مناضلى هذه الأمة والمدافعين عن شرفها وحقها فى الحياة وفى الوجود الحضارى المطلوب.
نقولها للبقية الصغيرة من المناضلين بأنكم إن لم تنظروا فى الأمر بعمق، فإن الأمواج ستجرفكم أنتم أيضاً فى القريب.
شعار الوحدة العربية فى أى صورة كانت يجب أن يعلو فوق كل شعار الآن، وأن يفعل فى الواقع بأية صورة كانت، فهو مستقبل شابات وشباب الأمة فى هذه البحار المتلاطمة.