بعد فترة من الاضطرابات، أنهى الجنرال نابليون بونابارت ثورة شعبه وأقام نظام حكمٍ استبدادى يخدمه كشخص... وكعائلة. لقد أصدر دستورا وقوانين وأعاد حق التصويت العام، وللذكور فقط، كى يتم انتخابه وحده قبل أن يجعل من نفسه امبراطورا. عايشه «الأمير» تاليران زمان الثورة كى يَضحَى وزيرا لإمبراطوريته. ولكنه تجرأ وقال له يوما حكمته الشهيرة: «مولاى، يمكنك أن تفرِضَ كل شىءٍ بواسطة الحراب، باستثناء الجلوس عليها». وقصد أنه لا يمكن أن يستمر بالاستبداد إلى ما لا نهاية.
بالتأكيد لا علاقة لهذه المقدمة بخطاب القسم الذى استهل به بشار الأسد ولايته الرابعة لسبع سنوات إضافية على رئاسة سوريا. لكنه خطابٌ يستحق التوقف عنده، حيث إنه لا يختلف كثيرا فى جوهره عن ذلك الذى ألقاه عام 2014 على الرغم من المنعطفات الكبيرة التى طرأت على المسار السورى. ومن المهم لفت الانتباه إلى بعض الملامح مهما كان توافق واختلاف المواطنات والمواطنين السوريين مع المضمون ومشهدية الإخراج.
يتضمن القَسَم الذى يحلفه الرئيس على القرآن والدستور تعهدا «برعاية مصالح الشعب وحرياته» والعمل على «تحقيق العدالة الاجتماعية». إلا أن اللافت فى الخطاب أن مفهوم الحرية، حريات الأفراد الشخصية وكمجموعات، لا مكان له فى حرية الوطن تجاه الخارج. وأن المواطنين هم فقط أفراد وعائلات وعشائر.
•••
لفتةٌ صغيرة جاء بها الخطاب حول الحريات عند الدعوة إلى المصالحة والعودة إلى حضن الوطن. أن من يتغنى بها لن يجدها لا عند الغرب الذى «امتهن تجارة الرقيق والتمييز العنصرى»، ولا عند العثمانيين الذين «طهروا عرقيا وميزوا إثنيا»، حسب قوله. بالتأكيد هناك مغالطات تاريخية فى هذا الطرح. فالعرب أيضا امتهنوا الرق فى تاريخهم، والعثمانيون قاموا بالتطهير العرقى عندما فقدوا عثمانيتهم وأضحوا قوميين أتراكا. لكن ما يهم هو تغييب الخطاب للحق بالحريات الفردية والجماعية التى ينص عليها الدستور صراحة. ذلك فى حين أن الشرط الأساسى لأية مصالحة وطنية هى إخلاء سبيل المعتقلين وكشف مصير المفقودين ووقف الاعتقالات العشوائية والتعذيب والتصفيات لمجرد خلاف فى الرأى.
لم يلجأ السوريون نساء ورجالا وأطفالا إلى الغرب أو إلى العثمانيين لجهلهم لماضيهم، أو حتى لعدم معرفتهم بأطماعهم، بل لجأوا إلى هناك بسبب غياب الحريات الأساسية فى بلدهم. ولأن واقع الحريات اليوم فى تلك البلاد أفضل بكثير من تغييبها على أرضهم... أيضا اليوم.
الأمر الآخر اللافت فى الخطاب هو التركيز على الملف الاقتصادى فى خضم الأزمة المعيشية الكبرى التى يرزح تحت وطأتها السوريون والسوريات. لفت الانتباه إلى تثبيت سعر صرف الليرة السورية فى الأشهر الثلاثة الماضية بعد أن كان قد انهار منذ أبريل 2019 بالتوازى مع انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية. تم فى الواقع تثبيت سعر الصرف منذ إطلاق الحملة الانتخابية كما عادت الكهرباء مؤقتا بشكلٍ واسع. لكن تقنين الكهرباء سرعان ما عاد بأقسى من الماضى القريب. وكانت كلفة تثبيت سعر الصرف هى تقليص استهلاك السوريين إلى حد لا يُحتَمَل فى حين ما زال التضخم يتعاظم أكثر بكثير من قدرة المواطنين على تحمله. وفى الواقع يُمكن تثبيت سعر الصرف على أية قيمة إذا توقف الاقتصاد وحركته. فما العبرة إذا؟ وهل يضع رئيس السلطة التنفيذية مصداقية حكمه فى رهان الاستمرار فى ثبات سعر الصرف؟.
وركز الخطاب أن العائق الأكبر أمام الاستثمار هو الأموال السورية المجمدة فى المصارف اللبنانية، التى بالغ فى تقدير أرقامها إلى حدودٍ تخرج عن أى منطقٍ. فما الذى هدفه بالتالى فى ذلك علما أنه معلومٌ أن أموال السوريين فى لبنان، مهما كان حجمها، لن يُفرَج عنها قريبا كما أموال اللبنانيين ومدخراتهم؟ ولن تستطيع العودة المفترضة إلى الدورة الاقتصادية السورية. ولم «تَضِع» لأنها أموال سورية، بل لأن لبنان يشهَد إحدى أكبر الأزمات المالية فى التاريخ. وتلك الأموال كانت قد «لجأت» إلى لبنان بالتحديد هربا من الطبقة السياسية فى سوريا التى تمادت فى نهب البلاد وتبديد مواردها. هكذا كان خيار لبنان، حيث تمادت أيضا الطبقة السياسية فى النهب والتبديد، وهى الطبقة التى رسختها أصلا وصاية السلطة السورية على لبنان خلال عقود.
بالطبع أثار هذا الطرح وهذه المبالغة حروبا إعلامية حول الأرقام وحملات «هستيرية» بين السوريين واللبنانيين، بينما يستضيف لبنان سوريين بحجم ثلث سكانه باتوا يشكلون عبئا كبيرا عليه، فى ظل أزمته المتعاظمة. هؤلاء السوريون لا يريدون حقا العودة حاليا إلى وطنهم، ليس لأن لبنان غرر بهم أو لمواقفهم السياسية، بل لأن القائمين على وطنهم ينتهِكون بالتحديد حرياتهم وحقوقهم وسبل عيشهم.
صحيحٌ أن الاقتصادين اللبنانى والسورى مرتبطان بشكلٍ كبير. ولكن هل من المسئولية أن يزج رئيسٌ سورى بنفسه كأحد أطراف زعماء الطوائف اللبنانية، ليذكر الأمر بـ«خطاب تنحى» سعد الحريرى عن تكليف الحكومة اللبنانية، قائلا: «أنه فقد ثروته فى لبنان وأنه مُنِعَ من تأليف الحكومة لأنه... سنى»؟.
سوريا تعيش أزمة اقتصادية ومالية حقيقية، فاقمتها العقوبات الأمريكية والأوروبية والانهيار اللبنانى. إلا أن جذور الأزمة نشأت قبل 2011، كما فى لبنان، رغم الرصيد الحكومى الكبير الذى تواجد فى المصرف المركزى والمصرف التجارى السوريين عند بداية الولاية الأولى للرئيس الحالى وضآلة مديونية البلاد الخارجية والداخلية. وهنا تحق المساءلة عن سبب، وكيفية، هدر هذه الموجودات التى كانت ربما كافية لتجنب ما حدث فى 2011؟!
•••
من ناحية أخرى، شدد الخطاب على أن الإصلاح الإدارى يركز فى هذه المرحلة على البنى المركزية للدولة، مضيفا أنه لن يكون لذلك انعكاسٌ مباشر على المواطن والمواطنة، رغم التشديد أن الهدف هو تأمين البنية التحتية للدولة الحديثة من ماء وكهرباء. لم يفهم أغلب المواطنات والمواطنين ما المقصود بهذا الطرح؟ ما فائدة إصلاحات إذا لم يكُن لها انعكاسات مباشرة على معيشتهم وخاصة الكهرباء والماء؟ ولماذا تأتى أولوية الإصلاح على المستوى المركزى وليس المحلى والإقليمى، علما أن البلديات والمحافظات باتت تقوم بدورٍ هام على مختلف الأصعدة الخدماتية رغم المعوقات الكبيرة التى تفرضها عليها الحكومة المركزية وسلطة ما فوق الدولة، وأن الإنتاج المحلى للكهرباء والماء أضحى هو السائد وبشكلٍ غير مقنن وغير مضبوط يُثقِل كاهل المواطنين. أهذا فقط كى لا يتم التفاوض حول اللامركزية الإدارية فى حين أنها مفتاح للحل مع ما يسمى «الإدارة الذاتية»؟
هكذا لا يبدو خطاب القسم للولاية الرابعة خطاب «انتصار». بل يؤسس لأزمات مستقبلية، مع مواطنات ومواطنى البلد بدءا، ومع لبنان ومع دولٍ مختلفة. صحيحٌ ما زالت هناك تحديات كبرى، معيشية للمواطنات والمواطنين السوريين وتقسيما للوطن السورى واحتلالات لأراضيه. لكن مواجهة التحديات لا تقوم عبر المماثلة بين الوطن والدولة وسلطة الرئيس وشخصه. «السيادة للشعب لا يجوز لفردٍ أو جماعة ادعاؤها»، كما ينص الدستور. وسيادة الشعب على أرضه خيارٌ حرٌ له. والسلطة مسئولية توكَل مؤقتا لمن يحملها والشعب يحاسب على أدائها.
يبقى السؤال الكبير عما سيكون خطاب القسم لرئاسة الجمهورية بعد سبع سنوات؟ وعمن سيقوم به؟ فهذه الولاية «دستوريا» هى... الولاية الأخيرة.