فى أحد أبعادها يمثل صعود وسيطرة المرشح دونالد ترامب على الحزب الجمهورى العريق مسمار النعش الأخير فى هوية أمريكا المسيحية البيضاء. ويقصد بالمسيحية هنا الطائفة البروتستانتية، التى سيطرت على الحياة السياسية والفكرية والقيمية الأمريكية منذ نشأة الدولة، ويقصد بالبيضاء هنا أحفاد المهاجرين الأوائل من الجزر البريطانية وألمانيا والدول الإسكندنافية من البروتستانت. ويعكس حصول ترامب على بطاقة تمثيل الحزب الجمهورى فى الانتخابات المقبلة آخر مراحل العناد التاريخى بعدم الإقرار بما شهدته وتشهده أمريكا من تغيرات دراماتيكية اجتماعية وديموغرافية وثقافية خلال النصف قرن الأخير. فقد هاجر لأمريكا خلال النصف قرن الأخير ما يقترب من 60 مليونا من أمريكا الوسطى وآسيا بصفة أساسية، وهو ما جعل أمريكا وناخبيها أكثر تنوعا واختلافا عما يعتقد كثيرون.
نعم تأسست الولايات المتحدة خلال الربع الأخير من القرن الثامن عشر متبنية دستورا علمانيا بامتياز، ولا يحتوى الدستور الأمريكى على أى ذكر لكلمة الرب أو الله أو الآلهة. فقط استخدمت كلمة الدين للتأكيد على عدم التمييز بين المواطنين على أساس عقائدهم، فالفقرة السادسة من الدستور تنص على أنه ليس من الوارد إجراء اختبار دينى لأى شخص يرغب فى شغل أى وظيفة حكومية. وبعد سنوات تم تبنى أول تعديل فى الدستور الأمريكى للتأكيد على عدم قيام الكونجرس بأى حال من الأحوال بتشريع قانون قائم على أساس دينى. ورغم ذلك كان هوى أمريكا ومنذ بدايتها بروتستانتيا مسيحيا بلا جدال، فقد كانت الأغلبية الكبيرة من الآباء المؤسسين من المهاجرين البروتستانت البيض. ولم تمثل الطوائف المسيحية الكبيرة الأخرى مثل الكاثوليكية بين الآباء المؤسسين، ولم تعرف أمريكا فى تاريخها أى رئيس غير بروتستانتى باستثناء جون كينيدى الكاثوليكى. ولم يعتبر الكثير من البروتستانت الأمريكيين نظرائهم الكاثوليك مسيحيين مثلهم. ولم يعتبروا كذلك السود الأفارقة من اتباع البروتستانتية أخوة لهم فى الديانة. ودائما ما مثل البروتستانت صوت الأغلبية فى الانتماءات الدينية بين الأمريكيين، وهو ما جعل هوى أمريكا بروتستانتينيا أبيضا.. إلا أن هذا فى طريقه للانتهاء.
***
يبلغ عدد سكان أمريكا حاليا حوالى 323 مليون نسمة، منهم 61% من البيض مقابل 17.6% من الهيسبانيك (مكسيكيون كاثوليك بالأساس)، و13.3% من السود الأفارقة، و5.6% من الآسيويين، والبقية متنوعة.
وطبقا لبيانات مركز بيو، بلغت نسبة البروتستانت 51.4% عام 2007، ثم انخفضت لتصل 46.5% عام 2014، وفى الوقت نفسه تقلصت نسبة المسيحيين إجمالا لتنخفض من 78% عام 2007 إلى 70% عام 2014. ومنذ وصول رئيس جون كينيدى كأول كاثوليكى للبيت الأبيض عام 1960، لم تستطع أمريكا البروتستانتية البيضاء تفهم تعقيدات وتبعات التغيرات المجتمعية الديموغرافية للسكان، وخسرت وما زالت ملايين من الأمريكيين، عرفت أمريكا من هذه اللحظات واقعا جديدا منح معه السود حقوقا سياسية واسعة لم يتخيلها أحد. وجاءت لحظة انتخاب باراك أوباما كأول رئيس أسود لأمريكا عام 2008، لتدشن انحدارا جديدا للسيطرة التاريخية للبروتستانت البيض. وكان رد الفعل متمثلًا فى الوقوع فى حضن حركة حزب الشاى المحافظ المتطرفة بمعايير الحزب الجمهورى. هاجم الجمهوريون أوباما فور وصوله للحكم، ولجأ المتشددون داخل الحزب لتبنى سياسات وخطابات تؤجج العنصرية والتعصب والإسلاموفوبيا الخطيرة، مرة بالتشكيك فى أن أوباما ليس أمريكيا كونه ولد فى ولاية هاواى لأب مهاجر من كينيا، ومرة بتصنيفه كمسلم (وكأنها جريمة). ووصل العداء لكى يمثل المرشح الجمهورى دونالد ترامب نوستالجيا الجمهوريين لأيام النجاح واستدعاء الماضى الجميل! وممثلاً لقيم ومعايير قديمة استندت إليها أمريكا فى عالم آخر مختلف كلية عن عالم وزمن اليوم بتعقيداته وتشابكاته. ويمثل ترامب كذلك غضبا واضحا لما شهدته أمريكا من تغيرات خلال النصف قرن الأخير، ولم تكفِ خطابات ترامب العنصرية والفاشية الوقحة ضد كل ما هو غير مسيحى أبيض كى لا يثنى الجمهوريين عن اختياره لتمثيلهم، بل يبدو أنها كانت السبب المباشر والأهم فى فوزه الكبير واكتساحه الانتخابات التمهيدية ممثلاً للملايين من الغاضبين على اتجاه أمريكا نحو مزيد من التنوع العرقى والدينى واللغوى.
وتاريخيا أسس البروتستانت البيض مؤسسات رائدة لتجنيد وتعبئة الشباب مثل فرق الكشافة للأولاد ومثيلاتها للبنات، إضافة لمؤسسة YMCA– Young Men Christian Associationــ الشهيرة، إلا أن هذه المؤسسات اليوم لم تعد بروتستانتية ولا بيضاء، بل تمثل موزاييك متنوع من كل الخلفيات. كما لا تحمل بيانات اتجاهات الهجرة لأمريكا أى أنباء طيبة للجمهوريين المتشددين، وتشير بيانات الهجرة إلى زيادة كبيرة فى اتباع كل الديانات والطوائف الدينية باستثناء البروتستانت. ومن هنا قد يكون ارتماء أغلبية البروتستانت البيض فى حضن الحزب الجمهورى، خاصة فى أحضان الاتجاهات المحافظة المنغلقة داخل الجمهوريين، هى نفحة ما قبل الموت.
***
بعد ما يقرب من 240 عاما على تأسيس الدولة الأمريكية على أسس جوهرها قيم وأفكار بروتستانتية بيضاء، ونجاح هذه الأفكار والقيم وتاريخيا فى جعل أمريكا القوة الرائدة فى عالم اليوم بما لها من سبق فى مختلف المجالات والعلوم. إلا أن عدم تفهم التغيرات الكبرى، التى أدت إلى قبول مجتمعى بحقوق المثليين جنسيا، أو بحق الإجهاض عند النساء، أو فى المساواة الكاملة بين كل الأمريكيين بغض النظر عن اللون أو الدين أو الجنس يمثل عقبة كبيرة للحزب الجمهورى المسيطر عليه من بروتستانت بيض فى زمن يزداد فيه نسب الملحدين، ونسب من لا ينتمون لأى ديانة ويقدر عددهم بـ 16% منهم. قوة البروتستانت البيض الثقافية لم تعكس خلال النصف قرن الأخير تغيرات الداخل الأمريكى مما أفقدها الريادة التقليدية التى تمتعت بها لأكثر من قرنين، لا سبيل لبقاء الحزب الجمهورى حيا، ناهيك عن فوزه بالبيت الأبيض يوما ما فى المستقبل، إلا إذا انفتح واستوعب أمريكا الجديدة، وأصبح أقل مسيحية وأقل بياضا.