لا يقلق أغلب المفكرين الأمريكيين من فكرة أو واقع لحاق الصين ببلادهم اقتصاديا وربما تخطيها كأكبر اقتصاد فى العالم خلال أعوام قليلة. ويثق الشعب الأمريكى كذلك فى غياب أى تهديد جدى مستقبلى لهيمنتهم العسكرية الحالية بالنظر لحجم وميزانية تسليح جيشها مقارنة بكل منافسيها مجتمعين.
ويرحب أغلب الشعب الأمريكى بالمنافسة العلمية والتكنولوجية مع بقية دول العالم وعلى رأسها الصين، ويثقون فى قدرة مؤسساتهم العلمية والبحثية على استمرار ريادتها العالمية فى أغلب مجالات المعرفة الحديثة.
إلا أن أكثر ما يتفاخرون به عند مناقشة المنافسة العالمية الصينية أو حتى الروسية هو مفهوم «سيادة القانون». ويكرر بعض المفكرين أنه لا خوف على الحاضر والمستقبل الأمريكى طالما تحترم أمريكا مبدأ سيادة القانون فى الوقت الذى يغيب فيه هذا المبدأ فى كل من الصين وروسيا. ويذهب البعض الآخر إلى القول بأن أغنياء العالم الثالث، بما فيهم أغنياء روسيا والصين، يحرصون على وضع الكثير من أموالهم فى المصارف الأمريكية، ناهينا عن شراء عقارات وأسهم وسندات أمريكية لا لشىء إلا لثقتهم الواسعة فى منظومة القضاء الأمريكى المحايدة والعادلة فى مجملها. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الصناديق السيادية لمختلف الدول التى لديها فوائض مالية ضخمة، إذ أصبحت الولايات المتحدة وجهتها الأولى خلال السنوات والعقود الأخيرة.
ويتهكم الأمريكيون على نخب العالم الثالث، التى تتطلع نسب كبيرة منها إلى اليوم الذى تُسيطر فيه الصين أو روسيا على السياسة العالمية ويقفون فى وجه الغطرسة الأمريكية. ومصدر التهكم ينبع من أن هذه النخب تتطلع فى الوقت ذاته إلى كل ما هو أمريكى سواء فى سعيها لاقتناء جواز سفر أمريكى إن لم يكن لهم مباشرة فلأولادهم كضمانة للمستقبل. وأصبح هناك شبكات واسعة ومنتشرة فى مختلف الولايات الأمريكية تسهل من وصول أغنياء دول العالم المختلفة وعلى رأسها الصين وروسيا لوضع أطفالهم فى الأراضى الأمريكية.
ولا يخشى أى مستثمر أجنبى، سواء كان فردا أم صندوقا سياديا على أمواله أو بيته أو أصوله الموجودة فى الولايات المتحدة، وذلك للثقة فى إجراءات القضاء الأمريكى المستقل.
تعد هذه الثقة فى النظام القانونى الأمريكى، أو ما يطلق عليه «سيادة القانون» أهم العوامل وراء الريادة الأمريكية الناعمة فى عالم اليوم مقارنة مع منافسيها المباشرين كالصين وروسيا. ففى الصين، دفعت هيمنة الحزب الشيوعى على كل أوجه الحياة بما فيها النظام القضائى إلى غياب الثقة فى نيل العدالة إذا تعرض أى شخص سواء كان زائرا أو مستثمرا لمشكلة أو لأزمة فى الصين خاصة إذا كانت ضد جهة أو مسئول حكومى، وهو ما يمثل النقيض فى الولايات المتحدة، فبصفة عامة لا يسعى أحد للمشاكل وخلق الأزمات، إلا أن اطمئنان الأشخاص فى أمريكا، مواطنين وزائرين ومقيمين، إلى وجود مبدأ «سيادة القانون» لا يجعلهم متخوفين من مواجهة السلطات أو أصحاب النفوذ فى ساحة القضاء إذا استدعت الضرورة.
• • •
إلا أن كل ما سبق يتعرض لتهديدات غير مسبوقة مع اعتقاد الملايين من أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب أن هناك عملية تسييس لمنظومة القضاء كان آخرها تفتيش «اقتحام» أكثر من 30 مفتشا تابعين لمكتب التحقيقات الفيدرالية FBI منتجع ترامب فى ولاية فلوريدا، ونقل صناديق تحتوى على مواد سرية وغاية فى السرية تتعلق بالأمن القومى الأمريكى للأرشيف الوطنى.
قد لا يعرف الشعب الأمريكى أبدا مضمون الوثائق التى تم استردادها من ترامب. كما أن قرار مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى السابق جيمس كومى بعدم مقاضاة هيلارى كلينتون على سوء سلوك خطير مماثل إبان انتخابات 2016 يُعقد إلى حد كبير قرار وزير العدل ميريك جارلاند بشأن ما إذا كان سيتم توجيه تهم جنائية للرئيس السابق ترامب.
وتنقسم آراء الفقهاء الدستوريين حول خطوة الـ إف بى آى فى اقتحام منزل ترامب. يذهب فريق لتبريرها حيث توفر سبب قانونى وجيه للتفتيش، إذ سمح أمر قضائى فيدرالى بمصادرة «جميع الوثائق والسجلات المادية التى تشكل أدلة، أو ممنوعات، أو دلائل ارتكاب جرائم، أو غيرها من المواد التى تم حيازتها بشكل غير قانونى فى انتهاك للمادة 18 من القانون الاتحادى رقم 793 أو 2071 أو 1519» وتتعلق جميع هذه القوانين الجنائية الثلاثة بحيازة ومعالجة مواد سرية تحتوى على معلومات تتعلق بالأمن القومى، أو السجلات العامة، أو المواد ذات الصلة بتحقيقات فيدرالية. وعلى النقيض يؤكد فريق آخر من الفقهاء الدستوريين أن ما قام به ترامب من جمع آلاف الوثائق ونقلها لمنزله الخاص لا يخالف القانون. يرى هذا الفريق أن وثائق الرئيس ترامب مشمولة بقانون محدد، وهو قانون السجلات الرئاسية لعام 1978، وعليه تعامل الرؤساء من جورج واشنطن إلى جيمى كارتر مع أوراق البيت الأبيض الخاصة بهم على أنها ممتلكاتهم الشخصية، ولم يعترض الكونجرس ولا المحاكم على ذلك، لكن الأمر هنا يختلف لأن اسم الرئيس هو «دونالد ترامب».
•••
منذ اقتحام منزله، لم يعبر ترامب عن ثقته فى القضاء الأمريكى كما هو متوقع من أى سياسى فى هذه الظروف، بل ذهب ترامب ليشكك فى شرعية المحاكم الأمريكية، وسيادة القانون، ويقول إن «نظامنا القانونى فاسد، القضاة مسيسون للغاية أو معرضون للخطر أو خائفون تماما».
وتشير استطلاعات الرأى المختلفة إلى أن ما يزيد على نصف الناخبات والناخبين الجمهوريين فى مختلف الولايات يصدقون كذبة ترامب الكبرى بأن فوز بايدن كان مزورا، ويرون أن منظومة القانون فى أمريكا لم تعد عادلة ومحايدة! وهكذا يبقى الورم الخبيث الذى زرعه ترامب فى السياسة الأمريكية بالتشكيك فى سيادة القانون، وقد لا يمكن القضاء عليه فى أى وقت قريب.
كاتب صحفى متخصص فى الشئون الأمريكية، يكتب من واشنطن.
الاقتباس:
قرار مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى السابق جيمس كومى بعدم مقاضاة هيلارى كلينتون على سوء سلوك خطير مماثل إبان انتخابات 2016 يُعقد إلى حد كبير قرار وزير العدل ميريك جارلاند بشأن ما إذا كان سيتم توجيه تهم جنائية للرئيس السابق ترامب.