تتربع هى على نشرات الأخبار أحيانا قليلة عندما أصبح للموت حكايات فى مدن العرب قد تأخذ هى المركز الثانى ولكنها دوما هناك كالوجبة الدسمة على مائدة نشرات الأخبار حتى أصبحت جزءا من الروتين.. ما إن يبدأ الخبر بتفجير هنا وانتحارى هناك حتى نذهب لعمل شىء آخر أو تعود الأخبار الأخرى..
زاد الموت بها حتى أصبح قصة موت معلن شبيه بماركيز وكثير من كافكا.. أعيشها كما يعيشها بعض أو كثير من جيلى بروح أخرى، ربما قلب آخر.. جزء منا لا يزال عالقا هناك بشناشين بغداد.. جزء منا جاء من هناك من حيث صباحات «الجيمر» والكاهى ومساءات الشاى «السنجين».. ولكن الموت لم يعد عالقا بها بل اصبح عابرا للمدن وانتشر كالطاعون فى كل مدنها من البصرة والنجف وكربلاء. كل مدن العراق استباحها الموت حتى اصبحت شيئا من الألم الدائم يعتصر القلب. ربما لذلك اصبح الوقوف هنا من بعيد والتفرج على الموت العراقى أشبه بالامر المستحيل أو ربما القاتل.
•••
فى صورة بالأبيض والأسود أحملها أينما حللت تبقى هى المدينة المزينة بأهلها وبيوتهم وقلوبهم المفتوحة.. هى المدينة الأولى فى عامى الأول.. هناك أجلسوا البنت الصغيرة ذات العام على كرسى من الخشب الفاخر فى استوديو شهير بأحد شوارعها العامرة بالعلم والثقافة وكثير من الكتب. أليست هى العاصمة التى تطبع وتقرأ.. وقف بالقرب من تلك الطفلة أخوها ذو الأعوام الثلاثة أو الأربعة ببدلة أنيقة «غاط ورباط» كما يقول أهلها.. تلك بغداد التى بقيت على مر السنين تتجول معى.. تلك الصورة وبعض من الذكريات التى جاءت خلال سنوات العمل.. قد تمر سنين طويلة قبل أن أذهب لبغداد فى مهمة صحفية والحرب العراقية ــ الإيرانية على أوجها وصور الجثث فوق عربات التاكسى فى الشوارع والسواد يكتسح المكان وبعدها. وفى سنوات الحصار كانت لى زيارات واحاديث وكثير من استكانات الشاى وبقيت بغداد مدينة للفن والثقافة رغم ما شابها من الحزن.
•••
بقيت بغداد ومدن العراق كلها مسرحا للأحداث حتى فى تلك السنة عندما دخلت دباباتهم المدينة مدنسة أرضها الطاهرة وسقط دمعنا كما لم نبك أبدا. حتى فى تلك اللحظة لم تتحول الى مسرح مفتوح للعبث.. لم تصبح المرأة والطفل والشاب والرجل العراقى ثمنا رخيصا لبضع متفجرات وحزام أو عربة ناسفة.. صارت عربات الموت تتجول الشوراع أكثر من تلك التى تنظفها، وبدلا من بغداد التى احتضنت كل العرب القادمين للعلم والمعرفة والفن والموسيقى والحضارة.. بغداد التى علمت أهلى وكثيرين غيرهم من أهل الخليج.. بغداد التى كانت لكل القادمين بحبهم لا القادمين بحقدهم.. اصبحت كما وصفها المبدع ياسمينة خضرا فى «صفارات إنذار بغداد» مرتعا لكل الشباب البائس الذى اصطاده بعض مدعى الدين والجهلة المحشورين فى زاوية صغيرة لتفسير متخلف للدين والمذهب.. ما هى إلا بضعة لحظات ويصبح الشاب مشروعا متكاملا للموت المعلن.. يرسل فى مهمات تجوب المدن. لم يعد لهؤلاء الشباب من حدود حتى العراق لم تفرخهم هى بل فرختهم عواصم كثيرة أخرى وأدخلوهم فى لعبة طائفية تشعل العراق وما حولها وقريبا تصل لبعيدها أيضا.. لم تبق مدينة عربية بعيدة عن رادارات هذه الفئة من الشباب الذين طحنتهم البطالة والفراغ والعوز وكثير من المدارس الدينية الممولة بروائح مشبوهة.
•••
لا تزال صورها تتداعى معى، وشوارعها العامرة وبيوتها المصطفة بعضها على ضفاف النهر، ومساءات تجتمع فيها النسوة الجميلات يتبادلن الحديث، وصوت ناظم الغزالى يداعب أكواب الشاى الفاخرة والكليجة العراقية الأصيلة.. كل ذلك لم يعد له مكان فى بغداد بعد أن طحن الفقر والموت الكثيرين ورحل آخرون هربا منها.. من مدينتهم التى لم تعد لهم ولا يعرفوا لمن هى!!! ضاعت صور شوارع بغداد خلف الحواجز الإسمنتية وراح المشى فى الطرقات شىء من العبث.. كأن الخارج من البيت لابس كفنه وخارج الى القبر.. هى صورة لمدينة عربية اصبحت تتكرر كثيرا فى مدن أخرى.. خوفنا أن تصبح كلها، أى كل المدن العربية بغداد حيث ترحل الطيور المهاجرة والقادرة ويبقى من يبقى ينازع بين خيارين لا ثالث لهما الفقر والجهل والموت المعلن.