إذ يقبل العالم على عام جديد، تتدافع التقييمات عما جرى وما قد تحمله الأعوام المقبلة للربع الثانى من هذا القرن من تغيرات. وتحتل الصراعات والتوترات الجيوسياسية التى تصاعدت فى السنوات الأخيرة مقدمة المخاطر التى تواجه الاقتصاد. ففى التقرير السنوى عن المخاطر المستقبلية، الذى تصدره بانتظام مؤسسة «أكسا» للتأمين، تأتى الاضطرابات الجيوسياسية فى المرتبة الثانية، بعد تغيرات المناخ، فى المخاطر العالمية المرصودة من خلال مسح إحصائى أجرته لآراء خبراء حول العالم، حيث جاء الأمن السيبرانى، والذكاء الاصطناعى، والتوترات الاجتماعية فى المراتب الثالثة والرابعة والخامسة على الترتيب من حيث الأهمية.
ينمو اقتصاد العالم بمعدل لم يبرح 3٫2 فى المائة فى العامَين الحالى والماضى، وهو المتوقع أيضا لعام 2025. ويرجع تواضع معدلات النمو إلى التفتيت الاقتصادى بسبب القيود المفروضة على حركة التجارة والاستثمار والتعاون التكنولوجى وانتقال العمالة. ومن المحتم أن ينخفض معدل النمو الاقتصادى الفعلى عن المتوقع إذا ما مورست إجراءات حمائية متزايدة تشعل حروبا تجارية.
وفى حين يرى بعض المحللين أن الإجراءات الحمائية هى التى أشعلت الصراعات الجيوسياسية، أرى أن الاقتصاد العالمى يفقد أوصال التعاون والمشاركة الاقتصادية الواحد بعد الآخر؛ بسبب ما بدا توتراتٍ جيوسياسية بين القوى الاقتصادية التقليدية والقوى الصاعدة، تُرجمت إلى إجراءات حمائية تجارية حتى بلغت 3000 قيد، بعدما كانت 900 قيد قبل عام 2020.
وساحات الحروب الاقتصادية الدولية تجاوزت التجارة إلى الاستثمار الأجنبى المباشر بزيادة موانعه، كما انتقلت إلى تحجيم فرص التعاون التكنولوجى بما فرضته من قوانين لمنع المشاركة فى مجالات بعينها لتعويق فرص المنافسة، صاحبتها إجراءات معوقة للتعاون الفنى واستقدام العمالة. وتنوعت المبررات لهذه الإجراءات بين دوافع الحفاظ على الصدارة، والتصدى لتغيرات المناخ، وتمتين سلاسل الإمداد التجارية، واعتبارات الأمن القومى. ومن القطاعات الإنتاجية التى تشهد، أكثر من غيرها، مظاهر لحروب اقتصادية والصناعات التكنولوجية المتقدمة، وأشباه الموصلات والرقائق، والمعادن الحيوية، والصلب والألمنيوم، والصناعات الدوائية، والمنتجات المنخفضة الكربون، والأنشطة ذات الاستخدام العسكرى والمدنى المشترك.
كما أن إجراءات بعض الدول المتقدمة من خلال سياساتها الصناعية الجديدة، وإجراءات التحول نحو الاقتصاد الأخضر، تتضمن مكونات حمائية ومقيدة لحركة التجارة. وتجد بلدانا نامية اليوم بين مطرقة الآثار السلبية لدعم مشاريع منافسة، وسندان القيود على حركة التجارة والتصدير لاعتبارات التحول الأخضر والتصدى لتغيرات المناخ. وأضرب مثالاً بما يتيحه تشريع تخفيض التضخم الأمريكى لعام 2022، من دعم سخى لمشاريع فى مجالات الاستدامة والتحول الرقمى، ستصعب منافستها من البلدان النامية. وهناك مثال آخر بتداعيات الآلية الأوروبية لتعديل حدود الكربون التى تفرض أعباءً، ابتداءً من بداية عام 2026، على قطاعات تصديرية للبلدان النامية مثل الصلب والأسمنت والأسمدة والألمنيوم وغيرها.
وكما أشرت فى مجموعة من المقالات، نشرتها فى هذه الصحيفة، تحت عنوان «الحروب والديون والعملة الصعبة» فإن الصراعات الجيوسياسية قد سيّست وسلّحت العملات الدولية أكثر من أى وقت مضى. فهيمنة الدولار بصفته عملة صعبة بعد الحرب العالمية، بما اعتبره البعض سلاحا نوويا ماليا تجرى عليه القاعدة ذاتها بألا يستخدم إلا دعامةً للاستقرار النقدى والمالى. بما يستتبعه من أن تسليح الدولار إيذان بدمار نظامه، شأنه فى هذا شأن الأسلحة النووية التى روّج لها بأن قوتها تكمن فى قدرتها على الردع فحسب؛ وأن نهايتها تكون باستخدامها فعليا.
ولكن الدولار قد جرى تسليحه، بمنع روسيا من استخدامه فى المعاملات الدولية بعد حرب أوكرانيا، وكانت قد مُنعت من استخدام نظام «السويفت» للتحويلات البنكية من قبل، بعد إلحاقها جزر القرم فى عام 2014. بما جعل التفكير أكثر إلحاحا فى البحث عن بدائل.
وما يبرر هذا الدور للدولار بصفته عملة احتياطية دولية، وما يصاحبه من امتيازات سخية وفياضة على الاقتصاد الأمريكى، ألخصه فى ثلاثة مبررات: الأول ما أشار إليه رئيس البرازيل إغناسيو لولا دا سيلفا من «ظاهرة الاعتياد» والخشية من التغيير. الثانى، ما ورد نصا على لسان وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين من أن «هناك أسبابا جيدة لاستخدام الدولار بتوسع فى التجارة الدولية، فلدينا أسواق مالية عميقة وذات سيولة ومنفتحة وتحكم بالقانون وأدوات مالية طويلة الأجل»، والثالث ما ذكره الاقتصادى إيسوار براساد عن أهمية الأداء النسبى للعملة الأمريكية فى استمرار دورها الدولى مقارنة بالبدائل من عملات تقليدية أو ناشئة أو مبتكرة. هذا على الرغم مما وقع فيه الاقتصاد الأمريكى مؤخرا من مشكلات تمسّ مصداقية العملة كالارتفاعات غير المسبوقة للتضخم، وكذلك زيادة مخاطر الاستدانة، فضلاً عن استخدام الدولار أداةً من أدوات الصراع الدولى.
ولا أعتقد أن التحذير الأخير للرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب بالتهديد للباحثين عن البديل للدولار بعقوبات بتعريفة جمركية تصل إلى 100 فى المائة مفيدٌ فى هذا الشأن. فلاستخدام التعريفة الجمركية آثار سلبية على المستهلك المحلى فى الولايات المتحدة تمنع التوسع فيها خصوصا مع ارتفاع التضخم، بافتراض فاعليتها أصلاً فى ردع الباحثين عن البديل. وأى احتمالات للتحول عن الدولار ترتبط بتغير المعطيات بأن تأتى بدائل الدولار مساندة بأداء اقتصادى معتبر وأسواق مالية منفتحة متنوعة الأدوات، وبمصداقية للنظام القانونى والحوكمة، على أن يعتاد المتعاملون عمليا على البديل الجديد. وإلى أن تأتى هذه اللحظات الفارقة للتحول سيستمر دور الدولار الأمريكى دوليا ليست رهبة من أثر تعريفة جمركية، لكن رغبة فى مزاياه النسبية.
نقلا عن جريدة الشرق الأوسط