لم يحّب أحد بيروت- ولا أعرف أحدًا لم يحبها- إلا وتملّكه خوف من أنه حين يزورها بعد غياب يجدها في صورة غير الصورة التي اعتادها. أزمة وراء أخرى في السنوات الماضية: حراك الشارع ثم وباء كورونا ثم انفجار المرفأ انعكست جميعًا على الوضع الاقتصادي وتركَت بصماتها على ست الدنيا، ونحن عندما نحّب نادرًا ما نُصالح آثار الزمن وتقلّبات الحال مع أحبّتنا لأنها تسحب من اعتيادنا وأُلفتنا وذكرياتنا وتجعلنا أغرابًا رغم أنوفنا. لم يكن في حكايات الزائرين العائدين مؤخرًا من بيروت ما يشفي الغليل عن أحوال بيروت، فالبعض تحدّث عن الشوارع الغارقة في الظلمة من الساعة الثامنة مساءً وطلوع كما يقولون والظلمة قاسية على مدينة توأمها السهر، تحدّث عن الإشكالات المتحركة من جنوب لبنان إلى جبل لبنان إلى بيروت تمهّد لانفجار لا يتمناه أحد ولا أحد يعرف ماذا يفعل معه إن حدث. أما البعض الآخر فتحدّث عن زحام الكافيهات وضجيجها وموسيقاها وأرجيلتها، عن الألق العائد إلى حي الجميزة التاريخي بمبانيه الحجرية الرائعة التي كان قد أصابها انفجار المرفأ في الصميم، فإن لم تكن تعلم شيئًا عن القوة التدميرية الهائلة لنيترات الأمونيوم في صيف ٢٠٢٠ فمن المستحيل عليك أن تتخيّل أنه ها هنا كانت توجد هيروشيما ثانية، تحدّث هذا البعض عن حب الحياة وعن ألطاف الله التي لولاها ما احتمل اللبنانيون ويلات الشرق الأوسط فهي أينما ذهبَت تعود وتصّب في عشرة آلاف كيلو متر مربع هي مساحة لبنان الحبيب. صورة وصورة، وحديث وآخر، لا رابط بين هذه وتلك أو بين هذا وذاك، فأي الصورتين يشبه الأصل وأي الحديثين يصدّقه محبو لبنان؟ في بلد التنوّع والتفرّد والمتناقضات، لا توجد إجابة على هذا السؤال بصح أو غلط، فالأمر يتوّقف على الزاوية التي نظرَ منها محدّثك والشوارع التي مشى فيها، وسوف تحتاج أن تكوّن رؤيتَكَ الذاتية عندما تتاح لك فرصة زيارة بيروت لتتعرّف بنفسك على ما تغيّر فيها وما لم يتغيّر، فإن جاءتك الفرصة فلا تضيّعها.
• • •
في أول زيارة تقوم بها صاحبتنا لبيروت بعد غياب أكثر من ثلاث سنوات، وتلك ربما هي المدة القصوى لاحتمال فيضان الشوق إلى بيروت، نما بداخلها إحساس غامض بأن شيئًا ما انطفأ في روح هذه المدينة الحبيبة، ولأن الأمر يتعلّق بالإحساس فسيكون من الصعب عليها شرحه وتوضيحه للآخرين، لكنها تكتفي بالقول إنها بعد عِشرة طويلة وعشرات الزيارات باتت قادرة على المقارنة بين بيروت وبيروت. لم تلحظ من قبل انطفاء روح بيروت رغم كل السنين الصعبة التي عاشتها، وأكثر سنين بيروت كان صعبًا جدًا، فلقد قُصِفَت وحوصرت وعوقبت واحتُلَت واقتتَلت وانقسَمَت شطرين لكن روحها لم تنطفئ، اليوم يبدو الأمر كأنه اختلف. نعم سوف يلقاك أهلها كالمعتاد بـ: يا مية أهلا وسهلا فيك، وسيعرضون عليك كالمعتاد تلبية: شو ما بدّك، وأن يوفّروا لك: حيالله شي يخطر ع بالك، وسيحدثوك عن حبهم لمصر ولهجتها ويمازحونك بجملة من أفلام عادل إمام أيضًا كالمعتاد، لكن مع ذلك يوجد شيء ناقص، وربما يمكن أن نستخدم وصف مكسور بدلًا من وصف ناقص. وسيكون من المجازفة القول إن ذلك يعود إلى تضاؤل الأمل في التغيير بعد أن بدا في لحظة معينة أن الخروج من قفص الطائفية السياسية وارد وقابل للتحقيق، لكن مرّت الأيام واتضح أن لا شيء تغيّر تحت سماء المدينة وأن كلّن باق في موقعه.. كلّن يعني كلّن، لكن تبقى المجازفة بهذا التفسير مجرد مجازفة، فالأحاسيس تفسّر نفسَها بنفسِها وليس عليها حُجّة أو دليل.
• • •
ثم أن صاحبتَنا وهي تعرف بيروت وشكل بيروت ستجد ملامح المدينة قد اختلفَت كثيرًا عن ذي قبل، يكفي أنها وجدَت أبواب فندق البريستول العتيد مغلقة فإن هي مرّت به فلن تتناهى إلى سمعها ألحان الرحابنة العذبة تنبعث من البيانو الفخم قرب الصالون، يكفي أنها لن تجد جريدة السفير عند أكشاك بيع الصحف والمجلات ولن تقرأ افتتاحية طلال سلمان لتعرف اتجاه البوصلة العربية وفي لحظات معينة نحتاج إلى تحديد الاتجاه، ومع أنها ليست من فريق الحريري ولا تنتمي أصلًا لأي فريق إلا أن العتمة التي تلّف ضريح رفيق الحريري بدت مقبضة، فقبل سنوات كان المكان جاذبًا للنور وباقات الورود من كل لون. أما شارع الحمراء فلولا مكتبة أنطوان وبعض المتاجر التي لازالت صامدة في مكانها لما استطَاعت صاحبتنا أن تتعرّف على الشارع، اختفت المكتبة الشرقية التي لم تكن بنفس ثراء مكتبة أنطوان لكنها كانت جزءًا من تاريخ الشارع وجزءًا من علاقة صاحبتنا مع الشارع، أُغلِق مقهى الحمرا الذي كانت تعرّج عليه مع الأصدقاء فيجدون في حديقته براحًا لا يتوّفر كثيرًا في بيروت، تحوّل أكثر المحلات اللبنانية الذي كان يبيع المجوهرات الثمينة والملابس الفاخرة والعطور النفّاذة إلى محلّات سورية لبيع الحلويات الشرقية والمكسرّات، وتصدّر الشارع محّل كبير رأته من قبل اسمه أسواق دبّي، وهذا جزء من تغيّر خريطة العلاقات والتفاعلات داخل لبنان وخارجه. اختفى باعة كانوا يهاودونها في أسعار البضائع وكانت تحمل لهم هدايا رمزية تسعدهم.. طووا مقاعدهم من أمام محلاتهم وفتحوها أمام محلات أخرى في مناطق أخرى أو ربما طووها وتقاعدوا. واتسّعت كثيرًا مساحة الأرض التي تتجمّع فيها فضلات الحمراء.
• • •
الاختلاف الثاني عند زيارتها بيروت بعد غياب أكثر من ثلاث سنوات كان فيها هي شخصيًا، فلقد أخذتْها هذه المدينة العجيبة بل أخذها لبنان كله وصعد بها إلى طبقة اجتماعية أعلى من طبقتها الوسطى بكل يسر وسهولة، تحوّلت فجأة إلى مليونيرة تلعب بالملايين لعبًا عندما قامت بتحويل أول مائة دولار إلى الليرة اللبنانية فاكتنزَت محفظتها بخمسة ملايين ليرة لبنانية بالتمام والكمال. ارتبكَت قليلًا عندما سألَت عن القيمة المناسبة للإكرامية التي تقدّمها لمن يؤدي لها خدمة في المطار أو الفندق فأتاها الجواب بأن هذه الإكرامية تتراوح بين خمسين ومائة ألف ليرة لبنانية أي بين دولار واحد ودولارين اثنين. لكن بالتدريج اعتادت على التعامل بالأسعار ذات الستة أصفار، ولم تندهش حين أتتها فاتورة عشاء خفيف من الشيش طاووق وبعض المزّات الشامية الشهيرة فإذا بها بمليون ليرة أي بعشرين دولارا، رغم أن فكرة العشاء المليوني لم تخطر على بالها قط. وبمرور الوقت أيضًا زالت دهشتها من توّفر الدولار بين أيدي الجميع، فكل الذين تعاملَت معهم كانوا على استعداد لردّ باقي النقود بالدولار، زالت دهشتها عندما ذكّرتها صديقة بحقيقة أن كل لبناني في الداخل له أسرة ممتدة في الخارج، لكن هذه السلاسة في التعاملات الدولارية لم تمنع من التكاثر الواضح في عدد مكاتب الصرافة تكاثرًا أشبه بنبات الفطر.
• • •
عندما تعود إلى بيروت لا تتوقّع أن تعود فيها إلى ماضيك فحاضر بيروت مختلف، وبالنسبة لها بالذات فلقد أهدت لها بيروت أيامًا حلوة جدًا في كل مرحلة من مراحل حياتها، فبيروت بالنسبة لها هي وجهة السَفر الأولى، والمغامرة الأولى، ودار النشر الأولى، والأناقة الأولى، والشهرة الأولى، والسهرات الأولى، وهي الحب الأول، لذلك كان من الصعب عليها جدًا أن تعود إليها بعد أن صار الحال غير الحال، لكن ماذا نفعل ببيروت بل ماذا نفعل ببلد تقول عنه فيروز: كيف ما كنت بحبك؟