بينما وقف أحد المحللين الاقتصاديين منددا بسياسات الدعم، وأثره السلبى على تشوه الأسعار وتحميل الموازنة العامة للبلاد فوق طاقتها. انطلق فى جانب آخر من طاولة الحوار أذان ببداية عهد جديد من تطبيق ما يسمى بالدعم التبادلى cross subsidy فإذا بصاحبنا يستبشر، ولا يجد حرجا من تطبيق هذا النوع من الدعم، مادامت الموازنة العامة للدولة لن تتحمل شيئا!.. كانت تلك الواقعة فى إحدى دول الجوار، ولكنها تنسحب بتفاصيلها على مختلف الدول ذات الطبيعة المتشابهة. الواقع أن مصطلح الدعم التبادلى ما هو إلا ضريبة مستترة يفرضها مقدم السلعة العامة أو الخدمة (البائع) ليتحملها البعض ممن يقدرهم البائع مقتدرين، ليغطى بها الفجوة بين التكلفة والسعر التى يتحملها البائع (أو يقدر أيضا أنه يتحملها خاصة إذا كان محتكرا) دون سائر مستهلكى السلعة أو الخدمة ممن ليسوا مقتدرين! العملية إذن تنطوى على صورة من صور الضرائب التصاعدية على الرغم من كونها ضريبة غير مباشرة. كذلك تنطوى على تصنيف فئوى وطبقى لمستهلكى السلعة أو الخدمة، وعلى كل حال فإن هذا الدعم التبادلى أو الروبن هودى (نسبة إلى روبن هود الذى كان يأخذ من الأغنياء ليعطى الفقراء) عليه الكثير من التحفظات وله العديد من المساوئ.
إذا كان الدعم التقليدى فى صورته العينية يخلق تشوها فى الأسواق ويجعل للسلعة الواحدة أكثر من سعر، فإن الدعم التبادلى يخلق التشوهات ذاتها، ولا يحقق أبدا ما يمكن أن يبلغه الدعم النقدى الموجه من إتاحة الفرصة لقوى السوق كى تعمل دون تدخل. وعامة لا يمكن أن يفرض هذا النوع من الدعم إلا فى سوق يسودها الاحتكار، ويعد فى رأيى تجسيدا عنيفا للممارسات الاحتكارية. تخيل معى سوقا تحكمها المنافسة الكاملة، فهناك عدد كبير من البائعين والمستهلكين، وجهاز الثمن يعمل بكفاءة بوقود من قوى العرض والطلب، لا يمكن إذن أن يفرض البائع سعرا خاصا محملا بضريبة مستترة أو إتاوة من أى نوع، وإلا عاقبته السوق فورا بتحول المشترين عنه إلى غيره من المنافسين.
***
نتفق إذن على كون التشوهات السعرية قاسما مشتركا بين الدعم العينى والتبادلى، ولكن تزيد حدتها لدى تطبيق الدعم التبادلى لأنها تبنى على افتراضات خلافية ذاتية التقدير، وتخلق تقسيما أو عددا من التقسيمات الافتراضية التى لا وجود لها داخل السوق الواحدة. هنا مثلا تكون أسعار شرائح الكهرباء التى تفرض على فئة معينة من المستهلكين أكبر من التكلفة، بل ومحققة للبائع المحتكر أرباحا غير عادية (فوق هامش الربح المقبول) يبرر تلقيه لها بأنه يغطى بها تقديمه للخدمة بأقل من تكلفتها لشريحة أخرى من المستهلكين. المشكلة هنا متعددة الوجوه، لأن حسابات التكلفة لدى المحتكر لا يعلمها أحد سواه، ولا يمكن أن نعرف ما إذا كانت مناسبة أو لا إلا فى وجود منافسة. إذن فالبائع المحتكر يحدد التكلفة ويحدد السعر ويحدد هامش بل هوامش متعددة للربح ويصنف المستهلكين وفقا لرأيه!... وذلك كله دون أن يتدخل أى طرف آخر فى السوق لتقويض تعارض المصالح الواضح عند المحتكر، والذى لا يمكن أن نفترض ــ اقتصاديا ــ أنه غير موجود لثقتنا فى «شخصه»! من ناحية أخرى يستولى المحتكر على حق أصيل من حقوق وزير المالية (أو وزير الخزانة فى عدد من الدول) فى فرض الضرائب وتوزيع أعبائها وفرض الدعم الذى هو ضريبة سلبية بالتعريف. ذلك الحق هو ما يجعل وزارة المالية وزارة «سيادية» ويميزها عن الوزارات الخدمية.
وإذا نحينا جانبا تداخل الاختصاصات الذى يمكن حسمه سياسيا، فإن منطق اضطلاع وزارة المالية دون غيرها بتلك الأمور يحكمه الرشد والعديد من الضوابط أبرزها مبدأ وحدة الموازنة وعدم تخصيصها (أى أن الإيرادات لا تخصص لأغراض معينة بل لعامة المصروفات المخططة سلفا) وعدم لعب وزارة المالية أى دور فى الأسواق كمنتج أو بائع لسلعة أو خدمة، وهو ما يزول معه أى ملمح لتعارض المصالح. كذلك وفوق كل هذا وذاك تخضع الموازنة العامة للدولة للرقابة الشعبية فى المجالس النيابية، ويكون من حق نواب الشعب رفض الضرائب أو الرسوم التى لا ينبغى أن تصدر إلا بقانون، وأن يتحقق معها الهدف المالى المنشود لمصلحة عامة لا لمصلحة شركات مقدمة لخدمات وتخضع إدارتها ــ نظريا ــ لقوى السوق الحرة.
كما أن عدالة التوزيع التى تنشدها الدول لا يمكن أن تتماهى مع ضرورات إعادة التوزيع فى القوائم المالية للشركات. هب مثلا أن قطاعا كبيرا هو الأكثر استهلاكا للسلعة أو الخدمة وهو الأكثر فقرا واحتياجا للدعم، فإن الدولة تنظر إليه من زاوية مختلفة عن زاوية الشركة التى ترى ضرورة رفع الأسعار بالنسبة لهذا القطاع لما له من أثر إيجابى على قوائمها المالية.. هنا معضلة جديدة لتصنيف السلع والخدمات والتى يعرفها الاقتصاديون، فليس كل السلع ينخفض استهلاكها مع زيادة الدخل.
***
ينبغى إذن ألا تطغى الغاية على الوسيلة فى أمور مالية واقتصادية حساسة مثل تلك الأمور، ولا يصح أن نحمل الأفراد والمؤسسات الخاصة ما نأبى أن تتحمله الموازنة العامة وإلا أصابهم ما أصابها من عجز مزمن، ولحق بتلك الوحدات الاقتصادية المهمة ما لحق بالقطاع الحكومى فى الدول الاشتراكية. أنا أستهلك سلعة اعتدت أن أحصل عليها مدعمة فرأت الدولة أنه لابد من رفع الدعم عنها فالتزم الجميع، فلا ينبغى أن يقرر مقدم السلعة بعد ذلك أنه يتحتم على أن أدفع فوق تكلفة السلعة وهامش ربحه العادى ضريبة يدعم بها مستهلكين آخرين! إن كان لابد من دعم بعض الفئات فالدولة تقدم هذا الدعم فى صورة نقدية أو عينية وهى تحصل الضرائب لهذا الغرض، فإن كان ثمة ضرورة لتمييز دافعى الضرائب وفقا لفئاتهم تحقيقا لعدالة التوزيع فهذا يتم دون تخصيص لحصيلة الضرائب لدعم فئة بعينها أو حتى نشاط بعينه.
يرى الاقتصادى الفنلندى «Osmo Soininvaara» أن الدعم التبادلى يفقر الأغنياء ولا يغنى الفقراء وأنه إن كان لابد من توجيه الدعم فإن المصدر الوحيد المقبول هو الضرائب العامة. فإذا فرض الدعم التبادلى على تعريفة ركوب المواصلات العامة فى المناطق المزدحمة بالسكان ــ مثلا ــ لصالح المناطق الأقل ازدحاما والأقل استخداما لوسائل النقل العام فإن هذا يؤدى إلى تشوه الأسعار وتحول الاستهلاك والتأثير السلبى على الأجور وتدفقات الاستثمار وحالة المركبات فى المناطق المزدحمة... ويرى العديد من الاقتصاديين ضرورة وضع الضوابط على محتكرى تقديم الخدمات العامة المملوكة للدولة مثل «هيئة البريد الأمريكية» وعدم السماح لهؤلاء المحتكرين بفرض أى نوع من الدعم التبادلى، حتى لا يفتح لهم ذلك بابا للممارسات الاحتكارية وتحقيق أرباح غير عادية تغطى على أدائهم المالى الباهت، وضعف قدرتهم على ضبط وإدارة التكاليف، وارتفاع مديونياتهم التى لم تنم بالضرورة بسبب انخفاض الأسعار وإنما بسبب ارتفاع وعدم كفاءة التكاليف.
وقد وضع مخزن الأفكار الحكومى الهندى Niti Aayog المؤسس لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، مسودة لسياسة الطاقة المستقبلية للهند على أساس صارم من التخلص التام من الدعم التبادلى، لتحفيز الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة والتى تتحمل حاليا قدرا من الدعم التبادلى لصالح الاستهلاك المنزلى ويجب نقله إلى الموازنة العامة دون تردد. ولا تكاد تجد أثرا للدعم التبادلى فى مجال الكهرباء على صفحات الإنترنت إلا فى الهند التى تعتزم فتح القطاع للمنافسة وكولومبيا التى تعانى هى الأخرى من تراجع جودة الخدمات للمستهلك المتلقى لهذا النوع من الدعم، أما الأسواق التنافسية فلا تثار بها هذه المشكلات وتتحمل الدولة بعض التكاليف عن المستهلكين الأكثر احتياجا، مع تعويض تلك التكاليف من خلال إيرادات متنوعة تحصل عليها من فتح باب الاستثمار فى مجال توليد وتوزيع الطاقة... وللحديث بقية.