خروج الحملة الفرنسية من مصر - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:49 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خروج الحملة الفرنسية من مصر

نشر فى : السبت 26 سبتمبر 2020 - 7:35 م | آخر تحديث : السبت 26 سبتمبر 2020 - 7:55 م

استمرت الحملة الفرنسية على مصر ثلاث سنوات، تمكن خلالها نابليون بونابرت من ترسيخ صورته كقائد عسكرى بارع، ورغم أن الحملة قد حققت بالفعل العديد من النجاحات السياسية والعسكرية بالنسبة لفرنسا، إلا أن حكم مصر لم يكن أبدا سهلا بالنسبة للفرنسيين، فقد واجهوا طوال فترة وجودهم فى مصر العديد من التحديات والثورات والقلاقل التى أدت فى النهاية إلى انسحابهم منها وعودتهم إلى أوروبا حيث كان لنابليون مغامراته الأوروبية التوسعية والتى وضع وفاق أوروبا فى معاهدة فيينا (نظام فيينا) 1815 نهاية لها.
فقد واجه نابليون بونابرت العديد من التمردات الشعبية والدينية طوال فترة الحملة الفرنسية فى مصر، وكذلك فقد كانت مغامراته العسكرية فى فلسطين ولبنان وسوريا فاشلة مما أجبر الفرنسيون فى النهاية على الرحيل عام 1801. ولكن لماذا فشلت حملة نابليون على مصر؟
***
فى الواقع لقد اعتمدت استراتيجية نابليون كما أشرت فى المقالات السابقة لهذه السلسلة على ثلاث محاور رئيسية، تمثل المحور الأول فى التقرب من المصريين وإظهار الاحترام لعاداتهم وتقاليدهم ودينهم وعلمائهم، أما المحور الثانى فقد تمثل فى التقرب من الباب العالى فى الأستانة وإقناعه بأن الحكم الفرنسى هو بالأساس للتخلص من المماليك أعداء العثمانيين ثم تعضيد حكمهم فى مصر، أما المحور الثالث والأخير فقد تمثل فى محاولة إحداث تنمية اقتصادية واجتماعية وصحية فى مصر لإقناع المواطنين بحب الفرنسيين لهم ومن ثم تدعيم شرعية الحملة الفرنسية.
لكن محاور هذه الاستراتيجية فشلت جميعا للعديد من الأسباب أهمها أن المصريين قد فطنوا بعد فترة زمنية وجيزة أن التقرب الدينى لهم هو تقرب مصطنع، ففى وقت المواجهات الشعبية مع الجيش الفرنسى قام الأخير بتدنيس المساجد وهدم بعضها واضطهاد العلماء سواء بالسجن أو الإعدام أو الإقالة من المناصب الدينية حال معارضتهم للحكم الفرنسى. كذلك فقد فشلت سياسة التقرب من الباب العالى، لأن الأخير قد فطن بعد فترة قصيرة أيضا أن نابليون يخادع من أجل تعضيد حكمه فى مصر، وقد تأكد هذا الشعور لدى الباب العالى بعد قيام نابليون بحملته فى الشام، ومن ثم اتبع الباب العالى سياسة الاتحاد مع الإنجليز أعداء الفرنسيين فى أوروبا من أجل القضاء على الحكم الفرنسى وقد كان لهذا التحالف بالفعل أثر كبير على استهلاك الجيش الفرنسى فى معارك عدة مما اضطره إلى الرحيل فى النهاية.
وعلى الرغم من أن الفرنسيين قد تمكنوا بالفعل من تطوير البنية التحتية فى مصر ببناء الكبارى والقناطر والترع والمستشفيات، إلا أن سياسة الضرائب القاسية التى تم فرضها على المصريين بالإضافة إلى التجاوزات العديدة فى حق الشعب المصرى وانتهاك حرماته من قبل الجنود الذين عاثوا فى البلاد فسادا قد أدت فى النهاية إلى الانقلاب على الفرنسيين والثورة عليهم.
***
هذا ورغم كل هذه الموبقات التى خلفها الفرنسيون فى مصر، إلا أنه لا يمكن إنكار العديد من المميزات والإنجازات التى حققوها فى البلاد وكان لها العديد من الآثار الإيجابية على مصر حضاريا وثقافيا وسياسيا. وكان من أهم هذه الإنجازات ما يلى:
أولا، أرسى نابليون بعض مبادئ التنظيم السياسى الحديث عن طريق إنشاء مجالس المحافظات والتى كانت بمثابة اللبنة الأولى للفكر النيابى، صحيح أنه انقلب على هذه المجالس عدة مرات كلما شك فى ولائها، لكنه فى النهاية أرسى تنظيم سياسى حديث استفادت منه مصر لاحقًا.
ثانيا: كانت من أهم نتائج الحملة الفرنسية هى تلك الإنجازات العلمية والتى تمثلت فى ذلك الكتاب العلمى الدقيق «وصف مصر» والذى صدر فى 20 مجلدا منها 11 مجلدا للصور والرسومات، و9 مجلدات للنصوص والتى قامت بما يمكن تسميته رفع الواقع المصرى فى كل أنحاء المحروسة وذلك عن طريق بعثة العلماء التى رافقت الحملة الفرنسية فى كل مجالات العلم والفنون تقريبا، قامت هذه المجلدات برصد ثروات مصر النباتية والحيوانية والمعدنية وكذلك رصد تاريخ مصر الفرعونى، ولعل الإنجاز الأبرز والمتمثل فى فك رموز حجر رشيد بواسطة شامبليون واكتشاف أسرار الحضارة الفرعونية هو واحد من أبرز تلك الإنجازات للحملة الفرنسية على مصر.
الحقيقة أن التعامل مع النتائج السلبية أو الإيجابية للاستعمار الغربى يحتاج إلى قدر من الموضوعية والحيادية فى التناول، ذلك أننا فى منطقتنا العربية نتأرجح عادة بين نوعين من المواقف كلاهما متطرف، فهناك من يبالغ فى تقييم النتائج الإيجابية للاستعمار الغربى باعتباره كله خيرا ومدخلا للحداثة الغربية، وبين فريق آخر يتعامل معه باعتباره شرا خالصا رافضا رصد أى إيجابيات. قراءة التاريخ دائما ما تقودنا إلى نتيجة شديدة البساطة، وهى أن التاريخ بأحداثه وشخصياته ونتائجه شديد التعقيد ولا يمكن قراءته بلغة الأبيض والأسود، فكل الأحداث والأشخاص لها جوانبها السلبية والإيجابية والباحث عن قراءة علمية للتاريخ عليه البحث عن هذا التعقيد وعرضه بأمانة، فالاستعمار الغربى كان شديد السوء فيما يتعلق باستغلال الموارد وسوء معاملة الشعوب والذى وصل إلى حد القتل والتنكيل، وكذلك فالاستعمار مسئول عن سياسة فرق تسد والتى أدت فى الكثير من الأحيان إلى شرذمة المجتمعات وتأليبها على بعضها البعض، لكن كان للاستعمار أيضا إضافاته وخاصة فيما يتعلق بالبنية التحتية والاكتشافات العلمية والتحديثات السياسية وكلا الأمرين من المهم ذكره.
***
عاد نابليون سرا إلى فرنسا، ثم عادت الحملة بأسرها من حيث أتت، تاركة مصر لمصير مجهول، فالمماليك مشتتون، والباب العالى ليس فى موضع سيطرة كاملة على مصر، ثم أن الحملة الفرنسية نفسها قد أظهرت أهمية مصر بالنسبة للقوى الغربية ولاسيما الإنجليز والذين وطأت أقدامهم مصر عدة مرات أثناء الحملة الفرنسية سواء بالتعاون مع المماليك أو مع الدولة العثمانية، فأصبحت مصر من تلك اللحظة وصاعدا محل نظر واهتمام القوى الغربية.
فور انسحاب الفرنسيين، دخل الإنجليز مصر لدعم وتثبيت حكم الباب العالى، وتولى يوسف باشا الصدر ولاية مصر نيابة عن السلطان العثمانى معتمدا على قوات الجنرال الإنجليزى هتشنسون Hutchinson والتى تمركزت فى منطقة مصر القديمة لتثبيت الأمن. كان الهم الأول ليوسف باشا هو محاولة التخلص ممن تبقى من المماليك، وتحديدا من عثمان بك البرديسى ومحمد بك الألفى والذين جعلوا معسكرهم فى القاهرة. دبر يوسف باشا مكيدة للمماليك بأن قام بدعوتهم لوليمة فى الإسكندرية بدعوى التفاوض، قبل أن يفتك بهم ويهاجم معسكرهم بالجيزة. ورغم ذلك فلم تنتهِ قوة المماليك تماما حيث تدخل الإنجليز لحمايتهم على غير رغبة يوسف باشا، ثم وبعد فترة وجيزة غادرت القوات الإنجليزية مصر، لتتواصل المواجهات بين العثمانيين والمماليك، حتى عمت الفوضى البلاد مرة أخرى كما كان الحال تماما قبل الحملة الفرنسية، وظلت مصر بلا حاكم أو والٍ لفترة زمنية طويلة حتى كانت مصر على موعد جديد مع التاريخ وذلك عندما حل بها محمد على باشا لتبدأ فترة جديدة وغير مسبوقة من تاريخ مصر الحديث.

أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر