نازك الملائكة.. وثورتها الفكريّة - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نازك الملائكة.. وثورتها الفكريّة

نشر فى : الخميس 26 أكتوبر 2023 - 7:20 م | آخر تحديث : الخميس 26 أكتوبر 2023 - 7:20 م
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة نادية هناوى، تناولت فيه تمرد الشاعرة نازك الملائكة على قواعد الشعر التقليدى لتطلق العنان للإبداع وخواطرها تسطر أبياتا شعرية دون الالتزام بقافية معينة وهو ما يسمى بالشعر الحر. ولكن نتيجة لاتجاهها للتنظير على الشعر الحر فى كتاب «قضايا الشعر المعاصر» اتهمها بعض النقاد بالنكوص والتناقض.. نعرض من المقال ما يلى.
العمليّة الشعريّة هى فاعليّة غير سائبة، لأنّها تعمل وفق قوانين معروفة يتناغم عبرها الشكل مع المضمون، وعادةً ما يُمارِس الشاعر تلكم العمليّة بشكلٍ تلقائى بحسب ما يتمتّع به من موهبة وإلهام، وما يكتسبه من خبراتٍ كإحساسٍ وحدسٍ ذاتيَّيْن، بهما تتماسك تجربته الشعريّة وتتحدَّد من ثمّ مديات تأثيرها فى المُتلقّين. أمّا الفقه بموجبات العمليّة الشعريّة وفروضها الإبداعيّة وطرائق التعبير عنها، فذلك أمر لا يتوفَّر إلّا لمَن كان مفكّرا فى الشعر، وفى ما ينبغى أن يكون عليه، شكلا ومضمونا.
وإذا كانت غايةُ ناقد الشعر إنارة القرّاء بهدف فهْم القصيدة وتذوُّق ما فيها من جمالٍ، عبر مناهج تتفاوت فى أساساتها، فإنّ غاية منظِّر الشعر هى فلسفةُ هذا الجمال بالارتكان إلى ما لديه من خبراتٍ فنيّة ومرجعيّاتٍ ثقافيّة مُختبِرا الشعر فى ذاته، بلا نهائيّة فى النهج والتجريب، ولا نمطيّة فى التفسير والتأويل، بحثا عن الجديد والحقيقى.
ولقد أَخذ الوعى بفلسفة الشعر يلفت الأنظار حين بدأت نازك الملائكة مطلع خمسينيات القرن الماضى بنشْرِ دراساتٍ متوالية فى نقد البنية الشعريّة، لتكون صاحبة فلسفة فى الشعر الحرّ اتَّضحت جليّة فى كتابها «قضايا الشعر الحرّ»، وهو حصيلة جمْع أبحاثها المنشورة فى مجلّة «الآداب» و«الأديب» اللّبنانيَّتَيْن على مدى عشر سنوات بدءا من العام 1952 ــ بعدما أَجرت عليها بعض التغييرات ــ وفيها تُدافِع وتُجادِل عن دراية نظريّة وعمليّة بالشعر وبمرجعيّاته التراثيّة ومناهجه الغربيّة. فكانت ريادتها هى فى شروعها بإدامة زَخَمِ حركة الشعر الحرّ، وبتوضيح نظامها العروضى الجديد ودفاعها المُستميت عن هذا النِّظام. وهو ما كلَّفها كثيرا من طاقتها الإبداعيّة والحياتيّة، ولكنّه أَظهرها بمَظهر الرائدة والناقدة الحصيفة المفكِّرة. ولم يتقبَّل تاريخ الأدب ذلك لكونه ينظر إلى أيّة ثورة أدبيّة بعَيْنٍ ذكوريّة ومن ثمّ لا يعترف إلّا بما هو فحولى؛ فانحاز فى منْحِ الريادة إلى أسماء شعراء زامنوها فى تطبيق هذا النّظام بدرجةٍ أو بأخرى.
صحيح أنّ نازك الملائكة اكترثت لأمرِ ريادتها للشعر الحرّ، وتأكيد أسبقيّتها فى ابتكار قصيدة الشعر الحرّ، لكنّ ذلك لم يكُن مهمّا بالقياس إلى ما شَغَلَ بالها من خشيةٍ على الشعر الحرّ من الانحراف عن مَساره المرسوم، وقد يكون وبالا على الشعر نفسه، يؤدّى به إلى الهاوية. وتجلَّت وسيلتُها فى تفادى وقوع هذا المحذور فى قيامها بالتنظير الفلسفى والنقدى، ليكون الشعر الحرّ ثورة فكريّة، جسَّدتها دواوين نازك الملائكة المُتضمِّنة ألوانا من التجريب فى بحور الشعر كالرجز والرمل والمتدارك، مع استلهامها فلسفة الحزن من شاعرَيْن من شعراء العمود هُما الخنساء وأبو العلاء المعرّى، فضلا عن جمْعها فى التعبير عن ذاك الحزن المتوارَث بين رومانسيّة الشعراء الإنجليز وشعراء المهجر العرب. ولا مراء فى أنّ نازك نجحت فى هذا كلّه، إبداعيّا وفكريّا، وبدرجاتٍ تتفاوت بحسب ما مرَّت به تجربتها الشعريّة من تحوّلاتٍ، وما صادفته من دعْمٍ وتشجيعٍ أو بالعكس من مُغالَبَةٍ وتصادٍ واستفزاز.
وإذ لم يختلف النقّاد والباحثون كثيرا فى تقييم تجربة نازك الملائكة الشعريّة، فإنّهم انقسموا أو بالأحرى قسوا فى تقدير تجربتها النقديّة، حتّى إنّ انقسامهم حولها كناقدةٍ طغى على انقسامهم حول الشعر الحرّ نفسه. وليس هذا بالغريب، فالحساسيّة النقديّة تجعل التصدّى لمَن يُدافِع عن شىء أهمّ من التصدّى للشىء نفسه أو لأنّ ما فى الشعر الحرّ من قوّة، وما عنده من مؤيّدين ومُحبّين، جَعَلَ التصدّى فاشلا، ومن ثمّ كان المرور إليه من خلال نقد النقد طريقا آمنا.
• • •
لقد بدأت نازك الملائكة شاعرة مختلفة، وهذا الاختلاف هو الذى جَعَلَها تدخل منطقة الفلسفة كشاعرة مفكِّرة، لا على مستوى النقد، بل على مستوى النقد والشعر معا. وكان سلاحها فى فلسفة ثورتها انتهاجَ الرومانسيّة، فسجَّلت بها أوّل انتصاراتها، ونَشَرَتْ ديوانها «عاشقة اللّيل». أمّا الانتصار الثانى فتمثَّل فى ديوانها «شظايا ورماد» وفيه اتَّضحت فلسفةُ نازك فى التمرُّد على عمود الشعر، وفى التفكير فى الوجود، حياةً ومَوتا، فتطعَّمت الرومانسيّة بمسحةٍ وجوديّة، وبهما طوَّرت بنى قصائدها، شكلا وإيقاعا. وخلال هذه المراحل من تطوُّر الشعر، كانت فلسفة الشعر قد تطوَّرت بدَورها كسلاحٍ واجَهَتْ به الفكر الذكورى المُناهِض لثورتها.
وعلى الرّغم من أنّ هذا السلاح كان ماضيا فى مُواجَهة التقوّلات والانتقادات، فإنّ النتائج كانت مخيِّبة لآمال نازك الملائكة؛ فلقد تصادى معها الوسط الأدبى، وهبَّ عليها هبّةَ رجلٍ واحدٍ بعد أكثر من عشرين عاما على قيام حركة الشعر الحرّ. لا لشىء سوى أنّها نَشرت كتابها «قضايا الشعر المُعاصِر»، فاتَّهموها بالنكوص والارتداد والانكفاء والتراجُع والتناقُض والتضادّ. فهل يُعقل أنّ شاعرة موهوبة وناقدة اجتماعيّة وفلسفيّة تنكفئ أو تكتب على الضدّ ممّا توجَّهت وكرَّست حياتها لأجله؟! بالطبع لا، فنازك الملائكة التى بدأت حياتها شاعرةً ثائرة، وَجدت نفسَها مسئولةً عن إدامةِ زخمِ ثورتها الشعريّة بوعى نقدى مُدرَّب صَقَلَتْهُ بدراستها الأكاديميّة لمنهجيّات مدرسة النقد الجديد الأمريكية، وسَعَتْ إلى ترسيخ تجربتها وتأكيدها من خلال التنظير لها. فأفادت من تجارب بعض شعراء الإنجليز مثل بايرن وكيتس، وتَرجمتْ بعضا من أشهر قصائدهما، واستلهمت منهما أساليب فنيّة معيّنة. ويظلّ التنظير للشعر الحرّ هو سبب مُناهَضة كثير من النقّاد لنازك الملائكة، فوجَّهوا سهامَ نقدهم إلى كتاباتها، بينما لم يَنَلْ تحليلُها لبنية القصيدة العربيّة عندهم اهتماما ملحوظا فى وقتٍ لم يكُن النقد العربى يعرف غير المنهج الفنّى، والنَّظر إلى ما هو خارج العمليّة الشعريّة.
ولم تَقُم نازك الملائكة بالردّ على أغلب الانتقادات التى وُجِّهت إليها، واكتفت بُمراقَبة الواقع الشعرى العربى عن كثب، فكَتبت فى مسائل اجتماعيّة ونفسيّة لها صلة بالشعر؛ لكن من دون الدخول فى مُماحكاتٍ مع هذا الناقد أو ذاك. فلقد قالت ووضَّحت واستشرَفت وحذَّرت ووضعَت ذلك كلّه فى كتابَيْها «قضايا الشعر المُعاصِر» و«سيكولوجيّة الشعر» وتَركت الأمر للزمن يقول رأيه القاطع.
النص الأصلى

التعليقات