من أجل تشويه القيمة التاريخية لثورات وحراكات الربيع العربى، وما تختزنه فى شعاراتها التى رددتها حناجر الملايين من آمال وأهداف للمستقبل، تتفنن بعض قوى المصالح والمنافع فى القراءات الخاطئة لما جرى وفى إلصاق التهُم والنعُوت لما حدث.
من هذه التُهم الباطلة أن تلك الحراكات وما أعقبها من أحداث وفواجع قد قادت المجتمعات العربية من حالة الهدوء والسلم الأهلى والتعايش المشترك إلى حالات انقسام المجتمعات على نفسها ودخولها فى فوضى أمنية وسياسية.
هذه التُهم تذكرنا بتهم مماثلة قيلت عبر تاريخنا وتاريخ الأخرى؛ قالتها قريش لنبى الإسلام (صل الله عليه وسلم) عندما نادى بمساواة أغنياء ووجهاء القوم مع فقراء وبسطاء القوم فى الكرامة والمكانة والحقوق الإنسانية. كان ذلك بالطبع نقلا لمجتمع مكة من سلم أهلى كاذب، مفروض بالعصا وبسلطة المال وبادٌعاءات تاريخية خادعة، إلى مجتمع العدل والقسط والميزان والتساوى أمام خالق الكون ورسول الدعوة.
فهل كان يعقل أن تحدث تلك النقلة الثورية الكبرى دون أن يدخل المجتمع المكى فى انقسام كبير بين من يؤمنون بالثورة الجديدة ويعاضدون قائدها وبين من يعارضونها حماية لمصالحهم وامتيازاتهم؟
نفس الصورة ونفس الانقسامات المجتمعية ونفس التُهم كيلت ورفعت بصوت عالٍ، واجهها حكم الخليفة عمر بن الخطاب والإمام على بن أبى طالب والخليفة عمر بن عبدالعزيز لأن الثلاثة تعاملوا مع دين الإسلام كثورة اجتماعية كبرى تعمل من أجل إحداث تغييرات عميقة فى مجتمعات البشر، وهو أمر لا يقبله أصحاب المصالح والامتيازات.
والأمر كذلك حدث للمجتمع الذى فجر فيه النبى عيسى ابن مريم عليه السلام ثورته الكبرى، وللمجتمع الفرنسى إبُان وبعد ثورته الإنسانية المبهرة، وللمجتمع الأمريكى عندما قاد الرئيس أبراهام لنكولن ثورته الشهيرة من أجل تحرير العبيد.
إن جميع تلك الثورات والتغييرات التى قادها مثل أولئك الأنبياء العظام والقادة الكبار، ما كان لها أن تنجح أو تبقى فى ضمير البشرية كقيم أساسية وكدروس وعبر، لو أن اصحابها اكتفوا بإلقاء المواعظ والدروس النظرية. لقد كان لابد من تجييش أجزاء من المجتمعات لتدخل فى صدام مباشر مع أجزاء أخرى لتصبح الثورات ثورات تغيير ونقل من حال فاسد ظالم سابق إلى حال أكثر عدلا فى أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع.
لهذا، فإن الذين يشيعون التهمة بشأن ثورات وحراكات الربيع العربى، تهمة إدخال المجتمعات العربية الحالية فى انقسامات وصراعات، إما أنهم لم يدرسوا تاريخ الثورات والحراكات التغييرية الكبرى فى حياة البشرية عبر تاريخها الطويل، وإما أنهم يريدون أن يجعلوا من الربيع العربى مهرجان خطابات عبثية لا تغير ولا تبدل شيئا فى حياة العرب البائسة المتخلفة الرازحة منذ قرون تحت نير الاستبداد الداخلى والسيطرة الخارجية.
•••
لكن هناك جانبا مهما يجب أن يتنبه له شباب وشابات الربيع العربى، من المستمرين فى بذل الجهود والتضحيات لإنجاح ذلك الربيع رغم المصاعب والمصائب، هو محاولات جهات المصالح والامتيازات حرف الانقسامات المجتمعية من انقسامات حول أهداف الثورات الكبرى الضرورية العادلة إلى انقسامات حول أمور فرعية لا دخل لها بالثورات ولا بالتغيرات التى تهدف الثورات إحداثها.
إن محاولات أصحاب المصالح والامتيازات تمثُلت عبر التاريخ العربى وتاريخ الآخرين بدس الجواسيس والخدم القابلين للشراء بالمال والمناصب، دس هؤلاء بين صفوف الثوار ومناصريهم لجرف ثورتهم عن أهدافها الأصلية إلى أهداف فرعية، وإشغال الناس بالتالى بالدخول فى صراعات فرعية.
لقد فعلها كبار قريش وفعلها الأمويون وغيرهم عندما أدخلوا المجتمعات العربية فى مجادلات سفسطائية حول مقارنة سخيفة فى الفضل والمنزلة الدينية بين الخلفاء الراشدين الأربعة، فاشغلوا العامة بذلك الجدل العبثى، وذلك حتى يتفرغ الطامعون فى الحكم والمال للحصول على ما يبتغون بعيدا عن رقابة الناس المنشغلين بتلك السفسطة.
كل الثورات تعرضت لمثل تلك المحاولات الخبيثة من خلال دس الجواسيس والمخبرين والمتحمَسين الكاذبين، حتى تضيع الثورات فى المتاهات والمجادلات البيزنطية.
ثورات وحراكات الربيع العربى تتعرض الآن لمثل ذلك الاختراق. المطلوب نسيان شعارات الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية واستبدالها بشعارات الصراعات الطائفية المبتذلة بين السَنة والشيعة وأصحاب بقية المذاهب، وبشعارات الصراعات القطرية الضيقة والحزينة المتشنجة الاستئصالية، وبالطبع أخيرا شعارات التفاخر القبلي.
قبائل وطوائف العرب فى ماضيهم المأساوى يحل محلهم اليوم أصحاب المال العرب وعساكرهم وطائفيوهم والمخابرات المحلية والدولى. فى الماضى كان الهدف إفشال ثورة محمد بن عبدالله العظيمة، والآن إفشال ثورات وحراكات شباب وشابات الأمة.